تُكمل الكاتبة قصّتها قائلة: أَودَعَ اللهُ في قلب الوالدين حبّ أبنائهم والخوف عليهم من تعرضهم لأي أذى أو خطر يواجههم، عندما أراقبهما أجد أنهما دائمًا يحتاجان إلى أحد يحيطهما بالاهتمام والعناية والرعاية، إن أصاب أحدهما حُمّى سهرنا طول الليل لتمريضه وإن لم يأكل مع حاجته للطعام حاولنا معه بكل ما أوتينا من سعة صدر لإقناعه وإن وقع على رأسه هرعنا إلى المشفى لنطمئن عليه وإن احترق ارتعبنا وأسرعنا لجلب الماء البارد لمداواته. في إحدى الليالي كان زوجي يحدثني عن شعوره بالمسؤولية وأنه دائمًا يتفكر في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾ سورة التحريم، وإذا كنا نخاف عليهما من نار الدنيا فأن نخاف عليهما من نار جهنم أَوْلى، فإنّ أشدَّ ما نجده من حرّ الدنيا إنما هو نَفَس من جهنم، وإنّ وقايتهم منها تكون بتربيتهم تربية قويمة في كل مراحل العمر أساسها تقوى الله.
كنت أقلقُ عندما أفكّر في حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا كأهل، لكن قلق زوجي زادني قلقًا وخاصة أنهما ميّزا وكان عمرهما آنذاك ست سنين، وأول ما رأينا منهما من إشارات التمييز كان اختبارًا أجريته لهما لأرى هل يفهمان خطابي ويجيبان عليه أجوبة صحيحة، فسألتهما أسئلة وكان منها: «كم مرة يأتي رمضان في العام؟ كم يومًا في الأسبوع؟» وكم كانت فرحتي كبيرة عندما أصابا الإجابة… هذه المواقف ومثيلاتها تترك في قلبك فرحة وفخرًا ينسيانك تعبك الذي تعبته في السنين الماضية.
لما أتى رمضان من السنة المقبلة كانا قد أتمّا سبع سنين قمرية، كنا قد أعددنا لهذا اليوم برنامجًا خاصًّا فببلوغهما سبع سنين صار واجبًا أن نعلّمهما كيفية الصلاة وأحكامها ثم نأمرهما بالصلاة أمرًا مع التشديد بطريقة تشعرهما بأهمية أداء فرائض الصلوات، وأن نعلّمهما بعض أمور الدين الضرورية من وجود الله ووحدانيته وقدمه وبقائه وقيامه بنفسه ومخالفته للحوادث أي أنه لا يشبه شيئًا من المخلوقات وأنه ليس جسمًا وأن للّه قدرةً وسمعًا وبصرًا وإرادةً وعلمًا وحياة وكلامًا، وأن محمّدًا عبده ورسوله وأنه عربي ولد بمكة وهاجر إلى المدينة ودفن فيها، وأن الله أرسل أنبياء أولهم آدم وكان جميل الشكل لا يشبه القرود، وأنه أنزل كتبًا على الأنبياء وأن للّه ملائكة وأنه سيُفني الجن والإنس والملائكة وكل ذي روح ثم يعادون إلى الحياة، وأنّ الجن والإنس يجزون بعد ذلك على حسناتهم بالنعيم المقيم وعلى سيئاتهم بالعذاب الأليم وأن الله أعدّ للمؤمنين دارًا يتنعّمون فيها وهي الجنة، وللكافرين دارًا تسمّى جهنم، ومن لا يؤمن برسالة محمّد لا يدخل الجنة. وكذا تعليمهما حرمة السرقة والكذب ولو مازحًا والزنى واللواط وحرمة الغيبة والنميمة وضرب المسلم ظلمًا، وتعليمهما أنّ استعمال السواك سنّة وما أشبه ذلك. وما عاد يجوز لنا كشف ما بين سرتنا وركبتنا أمامهما وصرت أنهى جويرية عن لبس ما لا يستر فخذها إلى الركبة. وحتى يعتادا على عدم الصلاة فرادى صرنا نصلي الصلوات الخمس في جماعة وإن لم يكن زوجي موجودًا يؤمّنا حمزة لأن المرأة لا تؤم ذكرًا، وصار زوجي يصطحب حمزة إلى صلاة الجمعة وعندما يكون في البيت ويسمع الأذان يأخذه إلى المسجد لصلاة الجماعة. وكانا في رمضان الماضي يحاولان الصيام معنا، في البداية كانا يمسكان إلى الظهر ثم يتعبان جدًّا فأطعمهما ثم اعتادا شيئًا فشيئًا.
في اليوم الذي أتمّا فيه سبع سنوات أقمنا لهما حفلة صغيرة ودعونا أصدقاءهما تشجيعًا لهما ولأصدقائهما أيضًا على فعل ما علّمناهما إياه وعندما حلَّ الليل وذهبا إلى الغرفة تفاجآ بوجود سريرين صغيرين مكان الفرشة التي كانا ينامان عليها، فالرسول ﷺ قد علّمنا أن الأحسن أن نفرق بين الأولاد في المضاجع من بلوغ سبع سنين، فرِحا كثيرًا وصارا يتسابقان للوصول إليهما.
وبعد تمام ثمان سنوات أقمنا حفلة بمناسبة ارتداء جويرية الحجاب، كانت حفلة جميلة جدًّا ومميّزة، ثم نزلنا إلى السوق واشتريت لها ثيابًا جديدة وأهديتها إياها، الحمد للّه الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
كانت هذه مرحلة حساسة تحتاج إلى صبر وحكمة في التعامل وتحتاج إلى أن يكون الإنسان مسلّمًا مُنقادًا لما أتى به الرسول ﷺ وأمرنا به فلا يقول: «كل هذا سأعلّمه لولدي وهو ما زال في هذا العمر؟ ما زال صغيرًا لا يعي ما أقول»، إذا كان الولد في أقل من هذا العمر يعرف كيف يستخدم الهاتف ويقلّب صوره ويختار أن يدخل إلى هذه اللعبة تحديدًا ويلعب، فهذا يدل على مقدرته على استيعاب وفهم لبعض الأمور على حسب عمره ثم ألم يعرف أنّ الرسول ﷺ رأى أن ابن العباس أهل للوصية مع صغر سنّه فقال له: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك» الحديثَ، رواه الترمذي، فلأن تملأ قلب ابنك بهذه الأمور المفيدة خير له من أن يصرف وقته وطاقته فيما لا يفيد. وقد قال الغزالي بعد أن ذكر مسائل الاعتقاد: «واعلم أن ما ذكرناه ينبغي أن يُقدَّم إلى الصبي أول نشوئه فيحفظه حفظًا ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئًا فشيئًا».
من المهد إلى اللحد – طفولة ثم ماذا بعد؟
https://manarulhudamag.com/236_77
من المهد إلى اللحد – ماذا أقول لولدي
https://manarulhudamag.com/236_78
من المهد إلى اللحد – بقدر الجد تكتسب المعالي
https://manarulhudamag.com/236_79
من المهد إلى اللحد – مودة ورحمة
https://manarulhudamag.com/236_710
من المهد إلى اللحد – فقد الأحبة ألم متجدد
https://manarulhudamag.com/236_711
من المهد إلى اللحد – غصة وفراق
https://manarulhudamag.com/236_712
من المهد إلى اللحد – سنن وإرشادات
https://manarulhudamag.com/236_713