تُكمل الكاتبة قصّتها قائلة: بيّن القرءان الكريم أهمية الرحمة والرأفة فقال تعالى مخاطبًا رسوله المصطفى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ سورة آل عمران، وقد وضع الرسول ﷺ الأسس العامة للتعليم وهي استعمال الرحمة والرفق والتيسير والتبشير فقد قال لسيّدنا أبي موسى الأشعري وسيّدنا معاذ بن جبل حين بعثهما إلى اليمن: «يسّرا ولا تعسّرا وبشّرا ولا تنفّرا» رواه البخاري، وقال: «أهل الجنة كلّ هيّن ليّن» رواه الطبراني، وقال: «إنّ الله عزّ وجلّ ليُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف» رواه الطبراني، ولأجل هذا اتبعنا هذه الأسس لمعاملة ولدينا في هذه المرحلة المهمة، فبعض الأولاد في هذا العمر قد يكون أقل طاعة لوالديه وأكثر جموحًا، كأنك أمام شخصية جديدة، فلا تستطيع أن تبادله نفس المعاملة فتعامله بغلظ وعنف دائمين، كما أنه لا ينبغي التهاون معه في كل حال لأن ذلك قد يفتح له طريقًا لفعل المنكرات بل لا بد من التوسط، اللين حيث يحتمله والشّدة في موضعها، وبكل حال هذا الأمر يحتاج إلى حكمة في التصرف.

واجهنا بعض الصعوبات في التعامل مع ولدينا أثناء هذا الانتقال، لكن نبقى بالنسبة لما كنت أشاهده من أولاد صديقاتي الأخف معاناة وللّه الحمد وذلك لأننا اهتممنا بنشأتهما منذ الصغر ولم نهمل الأمر، فإن المراد بتربية المميز أن ينشأ الصبي وهو يتمرّن على مجاهدة النفس والهوى وغلبة الشيطان وصيانة النفس والتقرب إلى البارئ عزّ وجلّ حتى إذا صبر عن الزلل وترفّع عن الوقوع في المهالك أدرك حلاوته، فيلقى في نفسه ما يحمله على تعظيم الدين وشعائره ويبعده عن كل ما يشين النفس والأخلاق، فيعتاد عادات أنبياء الله والصالحين فعادات السادات سادات العادات.

وكلما أحسست أن همّتهما تضعف عن الخير حدثتهما -وخاصة حمزة- عن سير بعض الصحابة الصغار في السن الكبار في النفوس، وعن هيبة مواقفهم وحسن صنيعهم فمرة أكلمهم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه الذي قاد جيش المسلمين وفيه كبار الصحابة وعمره ثماني عشرة سنة، وعن الأرقم بن أبي الأرقم الذي جعل بيته مقرًّا يجتمع فيه النّبيّ مع بعض الصحابة قبل انتشار الدعوة وكان عُمر الأرقم في ذلك الوقت ست عشرة سنة، ومرة عن عرض
عبد الله بن عمر بن الخطاب على النبيّ ﷺ في أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه النبيّ بالقتال وعُرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه وعن زيد بن ثابت الأنصاري الذي أعجب به النبيّ لأنه حفظ سُوَرًا من القرءان وكان دون خمس عشرة سنة، كان هذا لأرسّخ في قلب ولديّ أن من يريد الآخرة لا تهمّه الدنيا وزخارفها فإن لأقل مسلم في الجنة مثل الدنيا وعشرة أمثالها وأن من شأن المسلم أن يكون الحق منطقه ولا يخاف في الله لومة لائم.

في يوم من الأيام جاءتني جويرية تبكي ووجهها شاحب فسألتها ما بها؟ فقالت: «دخلت إلى الخلاء فوجدت دمًا»، كان عمرها ثلاث عشرة سنة، احتضنتها وطمأنتها قائلة: «صغيرتي أنت تعرفين أن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فلا تخافي هذا أمر طبيعي ليس لأن بك مكروهًا، أنا مررت بهذا وجدّتك كذلك، والآن اعزمي في قلبك على أداء الواجبات واجتناب المحرمات، فأنت صرت مكلّفة بالغة» ثم أرشدتها إلى بعض الأمور التي تتعلق بالنظافة، وذكرتها أنها في حال الحيض ليس لها أن تصلي ولا أن تصوم ولا يجوز لها قراءة القرءان ولا مسّ المصحف ولا حمله ولا المكث في المسجد، شعرت حينها بأهمية التدرج في المعلومات فالتدرج يجعل الأمر سهلًا على عكس الجلسة التي تُلقى فيها المعلومات كلها دفعة واحدة، فهي في الغالب صادمة. وبعد انتهائي دخلتْ إلى الغرفة ولم تخرج إلا عندما سمعت صوت الصحون والملاعق التي كنت أغسلها، جاءت لتساعدني فقلت لها: «استلقي في السرير وارتاحي اليوم وسأجلب لك شيئًا ساخنًا تشربينه».

وبعد مرور خمسة أشهر تقريبًا كان لرحمة
–ابنتي من الرضاع- موعد مع الطبيبة وقد طلب مني أبوها أن أصحبها لانشغاله، لكن زوجي في ذلك اليوم لم يستطع أن يأخذ عطلة من عمله فلم أستطع الذهاب لأن المسافة من بيتنا إلى الطبيبة مسافة سفر ولا أستطيع الذهاب بلا محرم، تحدّثت بذلك أمام حمزة فجاء بعد قليل وقال لي: «أنا بلغتُ اليوم صباحًا وكنتُ أنتظر أبي ليأتي لأخبره، أنا أذهب معكما» في البداية تفاجأتُ وتلعثمتُ، أحتاج زوجي بجانبي في هذا الموقف، لكنني استجمعتُ نفسي وقلتُ له: «انوِ أداء الواجبات واجتناب المحرمات، واعلم أن القلم ما عاد مرفوعًا عنك فقد قال
رسول الله ﷺ: «رفع القلم عن ثلاث» وذكر: «عن الصبي حتى يحتلم» رواه الحاكم، وأنا وأبوك ربّيناك تربية صالحة وبيّنا لك ما يجب أن تعرفه من الواجبات والمحرمات وأنت الآن صرت مسؤولًا عن عملك فراعِ حقوق الله فهو قد أنعم عليك بنعم منها الجوارح فلا تستعملها في معصيته» وذكّرتُه بالغُسْل لرفع حدث الجنابة حتى يستطيع أن يصلي الظهر، وذكّرته أيضًا أن الجنب ليس له أن يصلي قبل أن يغتسل ولا أن يمكث في المسجد ولا أن يقرأ القرءان ولا أن يمسه، وبعد ذلك ذهبنا إلى الطبيبة.

إن كل ما يتعلق بالتربية يحتاج إلى جهد من الوالدين، فلا يتذرّع الواحد منّا بالانشغال وكثرة الهموم والبلاء والمصائب لأن تربية الأولاد أحق بأن يفرغ لها الوالدان الجهد والوقت المطلوب.

بقدر الجد تكتسب المعالي
https://manarulhudamag.com/236_79

مودة ورحمة
https://manarulhudamag.com/236_710

فقد الأحبة ألم متجدد
https://manarulhudamag.com/236_711

غصة وفراق
https://manarulhudamag.com/236_712

سنن وإرشادات
https://manarulhudamag.com/236_713