تُكمل الكاتبة قصّتها قائلة: من أعظم الشدائد وأصعبها فراق المحبوب ونزول المرض بالإنسان، وحلول الموت به، وترى أكثر الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجًا يزيد عن الحدّ كأنّهم ما علموا أنّ الدنيا على ذلك وُضعت، وهل يَنتظر الصحيحُ إلا السّقم والكبير إلا الهرم والحي المخلوق سوى العدم، على هذا مضى الناس، اجتماعٌ وفرقة وموت وولادة… وأصل الانزعاج والحزن لا ينكر فمن لا يحزن إذا مات له قريب أو حبيب؟ وإنما يُنكَر على من يتكلّف كمَن يخرق ثوبه أو يلطم وجهه أو يعترض على الله فيما قدّره، فإنّ هذا كلّه لا يرد فائتًا لكنّه يدل على الجزع لمصيبة الموت فيستحقّ فاعله العقاب في الآخرة. وما أحسن ما روى أحد السلف أنّ رجلًا جاءه وهو يأكل طعامًا فقال له: قد مات أخوك، فقال: اقعد وكُل فقد علمتُ، فقال: من أعلمك وما سبقني أحد؟ قال: قوله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ سورة آل عمران/185. 

لا زلت أشعر بحرقة فراق زوجي، فأيامي من دونه رتيبة مظلمة، أبدّد فيها مللي بذكر الله وتلاوة آيات من كتابه وأصبّر نفسي بإهدائه ثواب ما أفعله من الأعمال الصالحة.

مرض زوجي كثيرًا في آخر أيام حياته، بقينا قربه نتعهّده، لا نتركه ليلًا ونهارًا، كانت جويرية أصبرنا، أرادت أن تكون قويّة متأسّية بسيّد الخلق الذي مات أبناؤه في حياته، حاضرة لتجهّز أباها تمام التجهيز وتُحسن إليه آخر أيامه -كما فعلت دائمًا- علّها ترد له شيئًا قليلًا مما قدّمه لها في حياته، فصارت ترشدنا، وأنا وحمزة نطبّق.

عندما حضر زوجيَ الموتُ لقنّاه الشهادة بذكرها أمامه بلا إلحاح مع إضجاعه إلى جنبه الأيمن ثم جلسنا حوله وقد جعلتُ رأسه في حجري، هذا يمسك بيده وتلك بيده الأخرى نقرأ
﴿يس جماعة عنده، نودّعه بها والدمع ينهمر على وجناتنا… ما استطاع التخفيف عنا وهو في حالته هذه… ما استطاع مؤانستنا وملاطفتنا كعادته، وهنا بدا صوت جويرية الخافت الذي قد علته الغصة قائلة يا أبتاه أحسن الظن باللّه… ربّنا أرحم الراحمين… الله أكرم الأكرمين.

ما كانت إلا لحظات حتى علت تأوّهاته وازداد اضطرابه فزاد منا البكاء ومنه التأوّه حتى شَخَصَ بصرُه فغمّضته وقلتُ: «السلام عليكم سيّدي عزرائيل» وصرت أقبّل رأس زوجي وأهمس له في أذنه غدًا نلقى الأحبة محمّدًا وصحبه، إنا للّه وإنا إليه راجعون، اللّهم أْجُرْنا في مصيبتنا وأَخْلِف لنا خيرًا منها» فإنما الصبر عند الصدمة الأولى.

الحمد للّه الذي ألهمني أن أقول ذلك وأن أخلع الزينة التي ألبسها. انكب ولداي عليّ وصارا يحضنانني ويقبّلانني وحمزة يمسح دموعي ويقول: «أنا طبيب يا أمي أعالج الغريب والقريب، لم أستطع أن أنفع أبي، ولا أن أخفّف عنه ما هو فيه، لم أقدر أن أدفع عنه شيئًا ﴿ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34)» سورة الأعراف.

بعد دقائق شاع الخبر وامتلأ البيت بالمعزّين شرعت جويرية ورحمة بتوزيع المصاحف حتى لا ينشغل أحد بالتحدّث بدل الذكر، ومن لا يعرف القراءة أعطته سُبحة، فهذا الذي يفيد أباهما الآن، وأنا جالسة أحاول قدر استطاعتي أن أقدم قراءة القرءان على البكاء، كنت أحس كأن البكاء يتوقف عند حنجرتي ورجلاي ما عادتا تحملانني، وَوهنٌ يسري في جسدي ونعاس! من أين للنعاس أن يأتي في مثل هذا الموقف! أتت جويرية إلى جانبي أخذت بيدي وقالت: «استحضري قولَ أمّ سلمة زوج النّبيّ ﷺ: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: ما مِن عبد تُصيبه مصيبة فيقول إنّا للّه وإنّا إليه راجعون اللّهمّ أْجُرْني في مصيبتي وأخْلِفْ لي خيرًا منها إلا أجرَه اللهُ في مصيبته وأخلفَ له خيرًا منها» رواه مسلم.

بادر حمزة وبعض الأقارب بتغسيل زوجي وذهب آخرون لقضاء دينه، فأدخله حمزة إلى الغرفة وأدخل معه مجمرة مُتّقدة فائحة بالطّيب ومن يُعينه على الغُسْل فقط، كانت عيون ابني تفيض بالدموع كفيضان الماء على جسد أبيه وهو يردّد: «ربّ اغفر لي ولوالديّ ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيرًا»، غسّله كما غسّلت بعض الصحابيات بنت الرسول زينب بطلبٍ منه فقال ﷺ لهنّ: «ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» وقال: «اغسلنها بماء وسدر واغسلنها وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا إن رأيتن ذلك واجعلن في الآخرة شيئًا من كافور» رواهما النسائي.

ثم كفّن أباه بثلاث لفائف فبسط أحسن اللفائف وأوسعها وذرّ عليها نوعًا من الطيب يسمّى «الحنوط» ثم الثانية والثالثة وفعل بهما مثل ما فعل بالأولى، ثم حمل أباه. ووضعه فوقها. «دنيا دوّارة!» في البداية أب يحمل ابنه وابتسامته تملأ فمه وفي النهاية ابن يحمل أباه والدموع تملأ عينيه…

غصة وفراق
https://manarulhudamag.com/236_712

سنن وإرشادات
https://manarulhudamag.com/236_713