تُكمل الكاتبة قصّتها قائلة: حانت اللحظة الأليمة، لحظة خروج زوجي من بيته، لكن هذه المرّة ليست ككل مرّة، هذه المرّة زوجي يخرج من البيت قهرًا محمولًا على الأكتاف، أصحابه وأقرباؤه يأخذونه أينما أرادوا هم، وهو لا حول له ولا قوّة، ليس عنده قدرة على فعل شىء ولا على النطق بشىء… حمله ثلاثة رجال تطبيقًا للطريقة الأحسن في حمل النعش وهي أن تُحمل بين عمودين فيضعهما رجلٌ على عاتقيه ورأسه بينهما ويحمل المؤخرين رجلان، ومضوا مسرعين، أنا أريده أن يبقى معي قليلًا بعدُ وهم يسرعون به، والكل يهلّل ويتفكّر في أمور الموت وما بعده، تعجّبت من حمزة، فإنه كان أسرعهم، كيف يسرع بأبيه إلى حفرة ضيّقة تحت الأرض! حينها لم أكن مستحضرة لحديث البخاري: «أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» يريد أن يقدّم أباه إلى ما هو خير بإذن الله…
كم كنت فخورة بولديّ ومواقفهما، هذه هي ثمرة التربية الإسلامية، تعبنا في تربيتهما في زمن قوّتنا وهما ضعيفان، لكن بعد ذلك أراحانا في زمن قوّتهما ونحن ضعاف، جزى الله والدهما خيرًا.
عندما رجع حمزة إلى البيت احتضنني ووضع رأسه على كتفي يريد أن يحدثني، لكن كلّما أراد الكلام تسبقه الدموع فيُحجم، منذ زمن طويل لم أرَ ابني يبكي هكذا.. «أنا صلّيت صلاة الجنازة على أبي يا أمي، أخبرني إمام المسجد أنني الأَوْلى بالإمامة، لو لم يكن أبي رحمه الله علّمني صلاة الجنازة، ماذا كنت لأفعل في موقف كهذا؟ هل أنتظر خارج المسجد حتى ينهوا الصلاة على والدي؟ والدي الذي تعب في تربيتي فكان في كل تجعيدة في وجهه قصة نعيم عشتها أنا وأختي، رحمه الله وجزاه خيرًا. ولو لم تكن جويرية التحقت بكليّة الشريعة ما كنّا عرفنا جميع التفاصيل التي فعلناها في الغسل وفي الدفن، أتعرفين أنها لحقتني إلى الباب لتخبرني أن الأفضل أن أتولّى أنا إنزال أبي إلى القبر وأن أستر القبر بثوب عند الدفن لأنه ربما ينكشف شىء فيظهر ما يُطلب إخفاؤه وأن لا أنسى قول: بسم الله وعلى ملّة رسول الله عند إنزاله، وأخبرتني أنه يسنّ لمن دنا من القبر أن يأخذ بيديه جميعًا ثلاث حفنات من التراب ويرميها على القبر، يقول مع الأولى ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾ ومع الثانية ﴿وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ ومع الثالثة ﴿ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)﴾ سورة طه، ثم بعد أن يغلق القبر يمكث جماعة عنده ساعة أي زمنًا يسألون له التثبيت ويسن رش القبر بماء بارد تفاؤلًا بتبريد المضجع، انظري يا أمي، كنا لا نتركه دقيقة واحدة في آخر أيامه وها نحن تركناه في حفرة تحت الأرض يحيطه تراب من جميع الجهات، اللّهمَّ جافِ الأرض عن جنبيه وافسح له في قبره، أتعرفين ماذا أخبرني إمام المسجد بعدما رأى المسجد ممتلئًا بالمصلين؟ قال: قال رسول الله ﷺ فيما رواه الإمام أحمد: «ما من مؤمن يموت، فيُصلّي عليه أمّة من المسلمين بلغوا أن يكونوا ثلاث صفوف إلا غفر له»، الحمد للّه يا أمي، الحمد للّه على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة». قطعت قريبتي حديثه وصارت تلحّ علينا كي نقوم إلى الطعام الذي هيّأه جيراننا لنا…
وقد صدق تعالى في قوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)﴾ سورة البلد، فالإنسان في تعب مستمر، فإنه أول ما يخرج إلى هذه الدنيا يكابد قطع سرته والختان ثم إذا قُمط قماطًا وشُد رباطًا يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه وتحرّك لسانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشدّ عليه من اللطام، ثم يكابد الأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلّم وصوْلتَه والمؤدّب وسياستَه والأستاذ وهيبتَه، ثم يكابد شغلَ التزويجِ والتعجيلَ فيه، ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجناد، ثم يكابد شُغل الدور وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، في مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها من صداع الرأس ووجع الأضراس ورمد العين وغم الدَّيْن ووجع الأذن، ويكابد محنًا في المال والنفس، ولا يمضي عليه يوم إلا ويقاسي فيه شدة ويكابد فيه مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة الملك وضغطة القبر وظلمته، ولو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد… آية تختصر مراحل الإنسان من المهد إلى اللحد…
سنن وإرشادات
https://manarulhudamag.com/236_713