قصة سمعتها عن أمّ، قصة تحكي عن الأمل، أثارتني فوقفت عندها، ما أحلى أن يكون الأمل مشرقًا في حياتنا، يحفزنا على الاستمرار والعطاء وكما يقولون: «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل»، بطلة هذه القصة أمٌّ أرشدها إحساسها فعاشت على الأمل، إنها أمّ إبراهيم التي سافر ابنها إلى لندن للعمل منذ خمس سنين، ولم تعد تعرف عنه شيئًا منذ ذلك الحين، سافر مع ابن جارتها أمّ مروان، هي لم تكن موافقة على سفره لكنه أقنعها وقال بأنه سيغيب لسنتين أو ثلاث ثم يعود إليها، فقبلت على مضض من أجل عينيه وودعها وسافر مع رفيقه، وها هي السنون قد عبرت وهي لا تعرف عنه شيئًا، حتى صديقه مروان كان يأتي كل سنة لزيارة أهله فتسأله عنه فيقول بأنه لا يعرف عنه أيّ شىء… وقضت أمّ إبراهيم تلك السنين بالذهاب للمطار كلما اتصلت بموظفة المطار وأخبرتها بموعد قدوم الطائرة من لندن فتتصل بأبي عمر سائق التاكسي الذي اتفقت معه على إيصالها للمطار كلما أرادت ذلك، وصار موظفو المطار يعرفونها جيدًا وصارت صحبتها معهم عميقة فهذه أمّ إبراهيم التي تنتظر ولدها ولا يأتي مع الوافدين، فتذهب حزينة، لكنها تعود مرة أخرى دون كلل أو ملل، فضاق ذرع ولدها الأكبر إبراهيم، فقال لها مرة: كفى يا أمّي أنت تتعبين نفسك فنظرت زوجته إليه ورفعت حاجبيها لتشير له بالسكوت. فضرب كفًّا بكف وقال: إلى متى؟! إلى متى؟! ثم جاءت عمة إبراهيم لتزورهم بضعة أيام، فطلب إبراهيم منها أن تُفهم أمّه الحقيقة بطريقتها فرفضت لعلمها بصعوبة الموقف، فهي تخافُ عليها من الصدمة وقالت له: «ألا تذكر يا إبراهيم عندما أخبرناها بالحقيقة منذ خمس سنين كيف أنها حبست نفسها لثلاثة أيام في غرفتها، ورفضت أن تصدق؟»، فقالت زوجته: «اتركها يا إبراهيم تعيش على الأمل»، وسمعت الأم الحوار الذي دار بينهما فصارت تبكي ثم دخلت غرفتها وجلست أمام المذياع فإذا بها تسمع صوت قارئ قرءان كريم يتلو بصوت شجي آياتٍ من الذكر الحكيم فانشرح صدرها وجلست متوكّلة على الله تعالى…
ويومًا بعد يوم تحسّنت صحتها وشعرت بنشاط كبير وصار عندها شدّة توكّل على الله تعالى وفوّضت إليه أمرها فهانت عليها غيبة ابنها، وصارت تخرج من المنزل بعد أن مكثت فيه وقتًا طويلًا… وكانت تخرج وتشتري حاجاتها أو تذهب لزيارة أقاربها.
وفي يوم من الأيام خرجت من بيتها فإذا بها ترى فقيرًا يمسك كيسًا فيه مناديل وهو يعرضها للبيع. أخذتها الشفقة والرّحمة عليه فتناولت من حقيبتها مبلغًا من المال وأعطته إياه، على الفور ناولها علبتين من المناديل فأبت أن تأخذهما فألحَّ عليها بشدّة، عندها بادرت وأخذت منه علبة واحدة وقالت له: «ادعُ الله تعالى لي» فرفع يديه وقال: «جزاكِ الله خيرًا جزيلًا». تابعت سيرها وقد دخل السرور إلى قلبها بدعائه.
أنهت جولتها وعادت إلى المنزل ووضعت الأغراض التي جلبتها ثم أدارت المذياع وجلست تستمع لتلاوة من القرءان الكريم وهي في سرور عظيم، فجأة! أحست بشىء ما في داخلها فاستغربت وقالت: «لا حول ولا قوة إلا باللّه العليّ العظيم، خيرًا إن شاء الله».
لم تُنهِ كلامها حتى سمعت قرعًا على الباب، قامت بخفة وفتحت الباب فإذا الصدمة عظيمة فقد كان ابنها «ماجد» واقفًا ويحمل حقيبته!!
انهارت الأم ووقعت فتلقاها ابنها وحملها إلى الداخل وجلب ماءً ونضحه على وجهها برفق فأفاقت وهي تقول: «ماجد… ماجد حبيبي ابني أين كنت؟!» وصارت تتفقّده بيديها مخافة أن تكون في حلم، فهدّأ من روعها وقال لها: «حبيبتي لا تتكلمي وأنا أشرح لك فيما بعد…»
انهمرت الدموع من عينيها وشهقت بالبكاء وهي ممسكة بيديّ ابنها والدموع تتساقط على يديه فضمَّها وقبّلها، قالت الأم: «الحمد للّه ربّ العالمين، ها قد عاد لي ولدي سليمًا معافى… الحمد للّه»…
في ساعة اجتمعت الأسرة كلها، الأولاد، الأخوات والأحفاد بعد سماع هذا الخبر وكان لقاءً عاطفيًّا…
في المساء كانت كُل الأسرة مجتمعة بانتظار أن يعلموا ماذا حصل مع ماجد؟! وكانت الأسئلة تدور في النفوس وهي كثيرة ومتشعبة بددها «ماجد» حين تكلم فقال: «حين قرّرتُ السفر منذ سنوات كان هدفي هو تحصيل العلم… وقد انتسبتُ إلى إحدى الجامعات. بدأت دراستي وكنتُ طالبًا مُجِدًّا وقد لاحظ أساتذتي تفوقي وشجّعوني على الاهتمام بدراستي لا غير، وحذّروني من الانجرار والاندفاع خلف شبان السوء الذين يسعونَ للفساد ويعملون على نشر الأخطار وإفساد المجتمع.
خلال فترة دراستي كنت أشعر بهم يحومون حولي، لم أكن أُعيرهم أي اهتمام، ولم أكن أعلم ما هو مدى خطورتهم…
في السنة الأولى نجحت نجاحًا باهرًا وأخذتُ امتيازًا، وكان هذا حافزًا لي لأعطي اهتمامًا أكبر…
في أحد الأيام جاءني أحد الأصدقاء وهو طالبٌ يدرسُ في نفس الجامعة، وكنتُ هممت بمغادرة الجامعة فقال لي: «هل لي بخدمة منك؟» فأجبته: «على الرحب والسعة…»
قال لي: «إنّ قريبي يقطن في نفس المبنى الذي تقطن فيه وقد نسي حقيبته وفيها كتبه وكل ما يتعلق بدراسته فأرجو منك إيصالها له، وهو يقطن في الطابق السفلي من المبنى، الشقة التي على اليمين»، رحَّبتُ فورًا وأخذتُ الحقيبة، ولما وصلت إلى الطريق المؤدي إلى المبنى فوجئت بألم شديد في رأسي أفقدني الوعي، عرفت بعدها أنها ضربة بعقب مسدس من الخلف.
أفقتُ فوجدتُ رأسي في غاية الألم فتحت عينيّ فوجدت نفسي في منزلٍ لا أعرفه وحولي ثلاثة رجال!
علمت فيما بعد أنهم أفراد عصابة وأنّ الحقيبة كانت تحوي «مخدرات»!!
إذًا، لم أكن في سجن شرطة ولو كان كذلك لتيسر لي أن أكلّمكم وأن أعيّن محاميًا وغير ذلك…
ولكنّ الأمور ساءت أكثر فقد قرّر أصحاب العصابة أخذي معهم والخروج من تلك المدينة، وهذه من عادات العصابات لأنّ الحذر والخوف والقتل كان سمتهم… وقد أخبروني أنهم إن تركوني فسوف يقوم بقتلي أفراد إحدى العصابات الأخرى لأنهم شاهدوني أحمل الحقيبة، وكانوا الأسرع في خطفي وأخذ الحقيبة وأصبحت متنقّلًا من مدينة إلى أخرى ولم أعلم أين أنا تمامًا سوى أني سجين عصابة، وعصابات تلاحق بعضها البعض وكان الأمر في غاية الخطورة…
وعلمت أنّ دراستي وأهدافي ذهبت أدراج الرياح وكانت الصدمة كبيرة، فقد أنهيت سنةً واحدة فقط وسقطتُ فريسة المكر والخداع…
في أحد الأيام كان أفراد من العصابة قد قرروا أن ينتقلوا كعادتهم إلى موقع آخر… صعدت السيارة معهم وكان الموكب مؤلفًا من أربع سيارات والكل سواي كان يحمل الأسلحة للحماية، قبل أن ننطلق بلحظة أتت سيارات وطوّقت سيارات العصابة بأعداد هائلة وسمعت صوتًا يقول: «الشرطة!!! الكل يداه إلى الأعلى».
كان كمينًا مُحكَمًا… ارتحت أني سأصير في قبضة الشرطة، وعندما اقتادونا إلى مركز الشرطة الرئيس علمت الشرطة بقِصتي بعد تحقيق طويل، وعندها شعرت بشىء من الارتياح وهدوء النفس…»، ثمَّ سَكتَ وقال لأمه: «يكفي إلى هذا الحد لقد اختصرت قصتي من سنوات إلى لحظات… فقالت أمُّه بعد أن تنهّدت: «نعم يا بنيّ الآن عليك أن ترتاح ونحن نحمدُ الله على سلامتك والحمد للّه أنك عدت إلينا سالمًا»…