الآمال الكبيرة تصاحب أكثرنا وتشده لتحقيق أهداف قد تفوق قدراته أحيانًا… لكنه يستمر في اندفاعه ولا ينحني أمام أي عاصفة. لا شك في أن لكل واحد منّا إمكانيات لا يستطيع أن يتخطاها… لكن نفسه تعده بالأحسن والأفضل ولو كان لا يملك الوسائل التي تعينه على الوصول إلى هدفه…
عدنان فقد والده وهو طفل دون الخامسة… نبيل شقيقه الأصغر كان في الثانية من عمره… اعتنت والدتهما بتربيتهما… وعندما صار عدنان في العاشرة من عمره… كانت ترسلهم إلى مسجد قريب لصلاة الجماعة وتلقي الدرس الديني فيه… كانت تنفق عليهم من مبلغ بسيط تركه زوجها… إضافة إلى مساعدات تأتيها من بعض أقاربها… كانت مكتفية بما يأتيها… وتنفق بلا إسراف حتى تستطيع إكمال مسيرتها مع أبنائها…
مرّت سنوات طويلة… كبر الصغار وصاروا رجالًا… عدنان صار مهندسًا… وجد عملًا في إحدى الشركات… كان بارزًا في عمله… أحبّه مديره… وكان يعينه في عمله… يساعده حتى يتطوّر في مهنته… دعاه أكثر من مرة لزيارته في بيته… وهناك تعرّف على نوال ابنة المدير… كانت تلاطفه وتظهر له الودّ… وبعد فترة شجعته أن يخطبها من والدها… كانت رغبته قوية في خطبتها… لكنه من أسرة فقيرة… وهي من أسرة مشهورة وغنية… احتار في أمره… هل يستسلم لقلبه ويقدم على خطبتها… أو يصرف ذهنه عن هذا الأمر… أخبر والدته بالأمر… فرحت له وشجعته على خطبتها… وقالت له إنه مهندس مهم… وراتبه جيد… وهو إنسان متدين يخاف الله… ولن تؤثر قضية زواجه على أسرته… سيبقى يهتم بأمّه وأخيه… وأن زواجه من ابنة المدير لن يصرفه عن الاهتمام بأسرته.. خطب عدنان نوالَ.. وما هي إلا شهور قليلة حتى حددوا يوم الزفاف… وفي يوم الزفاف… حضرت والدة عدنان وشقيقه وبعض أهله للزفاف… رأتهم نوال… أزعجها منظرهم… تجاهلت وجودهم… لم تسلّم عليهم… حتى إنها لم تبتسم في وجوههم… لاحظ عدنان ما يجري… حاول تخفيف آثار تصرفات زوجته… صار يلاطف أمّه وأهله… لكن نوالَ كانت دائمًا تدعوه للوقوف بقربها… وتصرف اهتمامه عن أهله… سكت عدنان عمّا يجري وقال في نفسه… هي ليلة وتمضي… ثم أذهب إلى أمّي وأعتذر إليها… وأطلب رضاها… وكان رجاؤه أنها ستسامحه وستنسى إهماله لها يوم زفافه… ومضت تلك الليلة… وأعقبتها أيام كثيرة… عدنان خجل من زيارة والدته… كان يخشى من ردة فعلها على تصرفه… لم يكن يعلم كيف سيعتذر إليها… ويخشى أن تصده وترفض استقباله…
الأمّ… يقابل البعض إحسانها بالإساءة… ويرد على تربيتها ورعايتها بالنكران.. الإنسانة التي سعت لتعطي أولادها أفضل ما عندها… كيف يقابل البعض هذا الفضل بعدم الاهتمام بل وأحيانًا بالإيذاء… ومضت أيام طويلة… اتصل عدنان عدة مرات بوالدته… كان يجيبه شقيقه ويقول له إن أمّه نائمة أو مشغولة… لم ترد على هاتفه… وهو لم يقم بزيارتها في بيتها لخوفه من آثار هذا اللقاء… كان يخاف من ردّة فعل أمّه… ولم تكن نوال تهتم لهذا الأمر… بل كانت تحب أن يخرج عدنان من جو أسرته الفقيرة…
أنجبت نوال ابنتها الأولى… فرحت بها كثيرًا… أسمتها على اسم والدتها… رضي عدنان ولكنه تضايق لأنه عرف أن أمّه ستحزن لأنه لم يسمّ ابنته على اسمها… جاء شقيقه لتهنئته ولم تأت والدته… أرسل لها صورتها وطلب دعاءها.. ومضت ست سنوات… أنجبت خلالها نوال ثلاث بنات فصرن أربعة… اكتأبت كثيرًا… لم تعد تحتمل هذا الواقع… طلبت الطلاق من زوجها… وتحت الضغط رضي عدنان أن يطلقها… سافرت نوال… تركت البنات عند أبيهم… طرده والدها من العمل ومن المنزل… لم يشفق على حفيداته… وقال لعدنان: «دبّر رأسك بعيدًا عني…»، ضاقت الدنيا في وجهه… أين سيذهب مع بناته… إنهن بحاجة للرعاية… وهو بلا سكن وبلا عمل… اتصل بشقيقه… طلب مساعدته… طلب منه العودة لمنزل الأسرة… قابل نبيل طلب عدنان بالقبول وأخبره أنه مرحب به في أي وقت… رجع عدنان إلى منزله… لم يكن يدري كيف يعتذر لوالدته… لكنها سامحته… حتى إنها لم تعاتبه… قبّل يديها وقدميها… اعتذر كثيرًا… قبلت اعتذاره… فرحت كثيرًا بحفيداتها… رأت فيهن طفولتها وطفولة أولادها… نسيت الأمّ كل ما فعله عدنان… كان فرحها بالصغيرات أكبر بكثير من ألمها… وطلبت من ابنها أن لا يترك التواصل مع زوجته السابقة… وأن يرسل لها دائمًا صور بناتها وأخبارهن ليفرح قلبها… فهي بالنهاية أمّ… ومهما قست… لعلها يومًا تعود لتحضن بناتها…
لا يتساوى البشر بعواطفهم… حتى الأمّهات يختلفن ببذلهن وعطائهن للأسرة… منهن من يبلغ عندهن الحنين إلى حد بذل أحبّ ما لديهن إكرامًا لأولادهن… ومنهن من يتركن كل شىء لإشباع رغباتهن الدنيوية… من تعلّمت الدين والتزمت به تعرف ما لها وما عليها… وتسعى لتطبيق ما تعلّمت طلبًا للثواب من الله… أمّا التي تعلق قلبها بالدنيا فلا تهتم بما حولها… بعضهن تغوص في الحرام…
طريق الحق واضحة… والهداية من الله… من الناس من يوفقه الله للطاعات… ويكون مطمئن البال ويأمل بالجنة… ومنهم من يضل… وهو الخاسر… مهما أسعدته الدنيا… إن مات على ما هو عليه… سينسى كل فرح الدنيا عند أول غمسة في النار… أجارنا الله منها…