الحمد للّه وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده وعلى آله وصحبه ومن اقتفى نهجه أما بعد فيقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) سورة الحجرات. 

وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول:  تدرون مَنِ المُسلم؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: مَن سَلِمَ المسلمون مِن لسانه ويده. قال: تدرون مَن المؤمن؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: مَن أَمِنَه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم والمهاجر من هجر السوء فاجتنبهرواه الإمام أحمد.  

يتبيّن لنا في هذا الحديث الشريف صفة المؤمن الكامل لأن المؤمنين على قسمين: مؤمن كامل الإيمان ومؤمن ناقص الإيمان، إذ الإيمان يزيد وينقص بحسب العمل، فمن أدّى الواجبات واجتنب المحرمات فهو مؤمن كامل الإيمان، ومن لم يكن كذلك لكن سلم له إيمانه فهو مؤمن ناقص الإيمان، ولا ينتفي اسم الإيمان عن الشخص إلا بالكفر والعياذ باللّه تعالى وهذا المعنى قد قرّره الإمام أبو جعفر الطحاوي السلفيّ الحنفي في عقيدته التي تلقتها الأمة بالقبول حيث قال: «ولا نُكَفّرُ أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلّه».

فالمؤمن الكامل إذًا من سلم الناس من أذاه في أنفسهم وأموالهم فلم يتعرّض للمؤمنين بما يسوؤهم بيده ولا بلسانه، وذلك أن الأذى لا يكون فقط بالضرب أو الحبس أو أخذ المال بالباطل، بل قد يكون باللسان وما أخطر ما يكون باللسان من ذنوب وآثام وقبائح ينبغي للعاقل أن يربأ بنفسه عنها.

ومن تلك الذنوب القبيحة والأمراض الهدَّامة التي تفتك بالبلاد والعباد وما أكثرها انتشارًا اليوم بين صفوف الناس على اختلاف طبقاتهم: رؤساء ومرؤوسين وقادة وعوام لا سيما بين النساء الغيبة والنميمة والعياذ باللّه، وجديرٌ بنا في هذا المقال أن نذكر موضوع الغيبة والنميمة تحذيرًا للناس وتنبيهًا للغافلين من خطرهما وشرّهما فإن كثيرًا من الناس يقعون في هذين الذنبين ولا يدرون جهلًا منهم بمعنى الغيبة والنميمة، ولربما ظن بعضهم أن ما يقوله خيرٌ ونُصحٌ يحبه الله، وما سبب ذاك إلا الجهل بعلم الدين.

وقد عرَّف النبيّ ﷺ الغيبة في الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله ﷺ حيث قال: أتدرون ما الغيبة؟قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذِكرُك أخاك بما يكره، قيل: أرأيتَ إن كان في أخي ما أقول: قال: إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتبْتَه وإن لم يكنْ فيه ما تقولُ فقد بهتّه رواه مسلم.

وأما النميمة فهي نقل القول بين الناس للإفساد فقد روى البخاري عن حذيفة قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: لا يدخل الجنة قتَّات  والقتّات النمّام أي لا يدخلها مع الأولين أي أنه مُستحقٌ للعذاب.

فالغيبة التي حرّمها الله تعالى إذًا هي ذكرُك أخاك المؤمن الحي أو الميت صغيرًا كان أم كبيرًا بما فيه مما يكرهه لو سمعه، سواء كان مما يتعلّق ببدنه أو نسبه أو ثوبه أو داره أو خُلُقِه كأن يقول قائلٌ: فلانٌ قصيرٌ أو أحول أو أبوه إسكافٌ أو فلانٌ سيّئ الخُلُق أو قليل الأدب أو لا يرى لأحدٍ عليه حقًّا أو كثير النوم أو كثير الأكل أو وسخ الثياب أو تحكمه زوجته أو زوجته قليلة النظافة أو نحو ذلك من كل ما يعلم أنه يكرهه لو سمعه.

والنميمة نقل الكلام بين الناس للإفساد كأن يسمع من عمرو طعنًا في زيدٍ فينقله لزيدٍ ليُوقع بينهما وقد جاء في كتاب الله تعالى وحديث نبيّه ﷺ ما فيه تحذيرٌ بليغ من هذين الذنبين.

فقد قال ربّنا عزّ وجل: ﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) سورة الحجرات.. وهذا تمثيلٌ وتصويرٌ لما يناله مَنِ اغتَابَ مِن عِرضِ من اغتِيبَ على أفحش وجه، وفيه مبالغات منها الاستفهام التقريري، ولما قررهم بأن أحدًا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقَّب ذلك بقوله ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ أي فتحققت كراهتكم لذلك باستقامة العقل فليتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره باستقامة الدين.

وقد جاء في حديث الإسراء والمعراج عن أنسٍ أنه قال: قال رسول الله ﷺ: “لما عُرِج بي مررتُ بقومٍ لهم أظفارٌ من نُحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس -أي يغتابونهم-ويقعون في أعراضهمرواه أبو داود.

وروى البخاري عن ابن عباسٍ أنه قال: «مرَّ النبيّ ﷺ بحائطٍ من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يُعذبان في قبورهما فقال النّبيّ ﷺ: يُعذّبان وما يُعذّبان في كبير ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة، ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبرٍ منهما كِسرة فقيل له: يا رسول الله لمَ فعلت هذا؟ قال: لعلّه أن يُخفّف عنهما ما لم ييبسا أو إلى أن ييبسا“. فأي خطر هذا؟ وأي ذنبٍ قبيحٍ يقترفه الذي يشتغل بالغيبة والنميمة، وجديرٌ بمن عرف هذه الحقائق أن يرعوي ويقف عند حد الشرع ولا يتمادى في هذين الذنبين بعد ذلك فيُهلك نفسه ويُعرضها لسخط الله تعالى.

رُوي أن أحد الصالحين كان يقعد في المجالس مع الناس يتحدث معهم فإذا أخذوا في الغيبة أو النميمة وأعراض الناس نصحهم وانصرف، فقيل له مرةً ما بالك تكون معنا فإذا خُضنا في حديث الناس انصرفتَ، فقال: أنا نفسي لم أرضَ عنها فلماذا أتكلم على الناس!. فرحم الله صاحب هذه النفس الأبيّة الذي نظر بعين البصيرة فأخذ في تقويم نفسه وإصلاحها ولم يتشاغل بالقيل والقال كحال كثيرٍ من الناس اليوم ترى الواحد منهم غارقًا في مستنقعات الجهل والإثم والهوى وهو مع هذا لا ينفك يفتش عن عيوب الناس ويبثها وينشرها ويزعم أنه من المصلحين، وربّنا عزّ وجلّ يقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلآ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ(12) سورة البقرة.

وقد روى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة أن النّبيَّ ﷺ قال: “يُبصِر أحدُكم القَذاة في عين أخيه وينسى الجِذْلَ أو الجِذْعَ في عين نفسه” والجذل الخشبة العالية الكبيرة، والقذاة من القذى وهو الوسخ القليل يكون في العين.

فمن علم هذا فليتيقّظ، فإن كثيرًا من المشكلات والخصومات التي نعانيها في مجتمعاتنا يرجع سببها إلى تلك المجالس التي تُعقد للكلام في أحوال الناس وعيوبهم وكل ذلك لمجرد التفكه أو التسلية وقد كان الأولى بمرتكبي الغيبة والنميمة والمستمعين لذلك أن يشتغلوا بعيوبهم لإصلاح ذواتهم عن عيوب الناس وأن يكفوا ألسنتهم عمّا حرّم الله فتقلَّ بالتالي المشاحنات وتصفو القلوب وتعم المودة.

روى الترمذي عن أبي الدرداء عن النّبيّ ﷺ أنه قال: من ردَّ عن عِرض أخيه ردَّ اللهُ عن وجهِه النار يومَ القيامة.

فليتقِ اللهَ امرؤٌ وليقف عند حدّ الشرع ولا يطلق للسانه العنان فقد روى الترمذي عن مُعاذ
رضي الله عنه أن النبيّ ﷺ قال: وهل يكُبُّ الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم وقديمًا قيل: كَم في المقابرِ مِن قتيلِ لسانِه كانتْ تهابُ لقاءَه الشُّجعانُ

فمن علم من نفسه أنه سبق له أن اغتاب أو نمَّ فليتُب إلى الله قبل أن يُفضي إلى يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم فذاك يومٌ لا يُفتدى فيه بالمال ولا بالذهب أو الفضة فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ ﷺ قال: أتدرون مَن المـُفلس؟ قالوا: المـُفلِس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقَذَف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار رواه مسلم.

والحمد للّه أوّلًا وآخرًا