الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الأمين وعلى آله وأصحابه الطيّبين الـمُباركين.
اعلم أنّ قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)﴾ سورة الشورى، دلّ على أن الله تعالى لا يشبه العالم بوجهٍ من الوجوه. إذ العالم ينحصر في شيئين: جوهر وعَرَض. والجوهر معناه الحجم سواء كان كثيفًا أو لطيفًا، فالشمس والقمر جوهران ويقال لهما جسم كثيف، والضوء الذي ينبثُّ منهما ويمتدّ يسمّى جوهرًا ويقال له جسم لطيف.
وأما العَرَض فمعناه صفات الجوهر كالحركة والسكون واللون والحرارة والبرودة. الشمس جوهر والحرارة القائمة بها عَرضٌ وسيرها كذلك عَرَض، ونحن بنو آدم جوهر وجسم وحجم، أما حركاتنا وسكناتنا والألوان البياض والسواد والشُقرة والحُمْرة والحرارة والبرودة التي فينا فهي كلّها أعراض، وكذلك اتخاذ المكان والتحيز في جهة فوق أو تحت يقال له عَرَض. والعالم لا يخرج عن هذين، كل أنواع العالم ينحصر في الجوهر والعَرَض.
والله تبارك وتعالى هو الذي أوجد هذا الجوهر بقسميه اللطيف والكثيف، وأوجد صفات الجوهر التي هي أعراض، وأبرزها من العدم إلى الوجود، فإذًا هو ليس جوهرًا ولا عَرَضًا، لأن الجوهر والعَرَض مخلوقان لم يكونا ثم كانا، ولو كان الله كالعالَم لكان مثله شيئًا لم يكن ثم كان ولو كان كذلك لاحتاج هو أيضًا إلى مَن يخلقه ولم يكن خالقًا. وكذلك الألم واللذة والفرح والحزن عَرَض، والتفكير أيضًا، وكذلك الصوت عَرَض، وهو قسمان: صوت هو حرف، وصوت ليس بحرف، فصوت الطبل مثلًا يقال له صوت ولكنه ليس حرفًا، أمّا الإنسان فإنّه ينطق بصوت وحروف، والله تعالى منَزَّه عن أن يتكلّم بصوت وحرف، لأنهما عَرَض، فلو كان يجوز عليه الصوت والحرف لجاز عليه اللون والحركة والسكون والتفكير وكلّ الأعراض، ولو كانت تجوز عليه الأعراض لكان حادثًا، من هنا قال علماء التوحيد: إنّ الله يتكلّم كلامًا ليس حرفًا ولا صوتًا، لأنه لو كان يتكلّم بحرف وصوت لكان مثل خَلْقه.
أمّا القرءان فإذا أريد به اللفظ الذي قرأه جبريل على سيّدنا محمّد وقرأه سيّدنا محمّد على الصحابة فإنه مخلوق، هذا اللفظ خلقه الله تعالى فأسمعه جبريل، ليس جبريل سمعه من الله تعالى كما يسمع الطالب من أستاذه الذي يقرأ عليه، بل خلق الله تعالى حروف القرءان فأسمعها جبريل، ثم أخذ جبريل هذا الصوت الذي خلقه الله وهو صوت القرءان أي اللفظ، أخذه بأمر الله وقرأه على سيّدنا محمّد. ومع أن حروف القرءان كانت مكتوبة في اللوح المحفوظ إلا أن سيّدنا جبريل أسمع سيّدنا محمّدًا القرءان كما وجده في اللوح المحفوظ وسمعه هو من الصوت الذي خلقه الله وليس مجرد أنه قرأ في اللوح المحفوظ، أي ليس الأمر أنه رأى حروف القرءان وحملها إلى سيّدنا محمّد فقط بل أسمع الرسول ما تلقاه.
وأما قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)﴾ سورة يس، فليس معناه أن الله ينطق بحرف الكاف والنون الذي هو من لغة العرب، وذلك لأن الله كان قبل اللغات. ولا يجوز أن يكون قبل اللغات لا يتكلّم ثم بعد أن خلق اللغات تَكَلَّـم، لأن هــــــذا معنــــاه أن الله حادث، والله قديم أزليٌّ ليس بحادث.
إنّما معنى هذه الآية المذكورة أن الله يخلق الشىء الذي أراد وجودَه بدون مشقة ولا تعب ولا تَأَخُّر عن الوقت الذي أراد وجودَه فيه، وذكر كلمة «كن» في القرءان ليُفْهمنا أن هذا الأمر ليس صعبًا على الله، كما أنّ الإنسان إذا أراد أن يقول: «كن» ينطق بالكاف والنون ويكون هذا أسهل شىء على الإنسان فلا يكلفه تعبًا.
يقول بعض أهل الفساد: «إنّ الله يتكلّم بحرف وصوت»، وهذا القول لا يجوز في حقّ الله، لأنّ الحرف والصوت لا بدّ أن يكونا حادثين، لا يوجد حرف ولا صوت أزلي قديم، لأنك إذا قلتَ: «بسم الله الرحمن الرحيم»، فإن الباء جاءت ثم انقضت، ثم جاءت السين ثم انقضت، ثم جاءت الميم ثم انقضت، وهكذا الحروف يسبق بعضها بعضًا، وكذلك كل شىء يسبق بعضه بعضًا هو مخلوق، والخالق لا يوصف بكل ما هو من صفات المخلوقين سبحانه وتعالى.
وقد خالف ابن تيمية إجماع المسلمين حين قال: إنّ الله يتكلم بحروف متعاقبة أزلية النوع حادثة الأفراد، وقد ذكر ذلك في عدّة من كتبه منها كتابه المسمّى «رسالة في صفة الكلام» صحيفة «51» و«54»، وكتابه المسمّى «منهاج السنّة النبويّة» الجزء الأول صحيفة «221».
ولعمري هذا كيف يكون؟!! كيف تكون الأفراد حادثة ويكون النوع أزليًّا؟!! وهل يوجد النوع من غير وجود الأفراد؟! هذا تناقض، وكذلك يقول في إرادة الله تعالى وهذا فساد في الاعتقاد وبهتان عظيم. تعالى الله وتنزه عمّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.