مفاجأة عزيزة على قلبي، وجدتها اليوم في مكتبتي، فاحتويتها بحبّ وفرح كمن وجد كنزًا ثمينًا! كيف لا؟ وقد وجدتُ دفتري القديم الذي كنت أكتب على أوراقه وأنا في المرحلة المتوسطة؟!!! دفتري العزيز والذي تجاوز عمره العشر سنوات. 

ولما فتحته فُتح معه باب الذكريات، ولما قلّبتُ أوراقه الصفراء القديمة شعرتُ وكأنني عدتُ تلميذة في المرحلة المتوسّطة ترتدي مريولها وتحمل حقيبتها لتمضي نحو المدرسة…

وتمثّلتُ نفسي هناك على مقاعد الدّراسة، ومرّت وجوه كثيرة في خاطري بلمح البصر، معلمات، زميلات، إداريون، صديقات والكثير الكثير من الوجوه والصّور، والصّور بعضها
يمرُّ في بالك بسرعة دون أن يحرّك فيك شيئًا أو يترك في نفسك أثرًا، بينما بعضها الآخر لا تستطيع إلا أن تتوقّف عنده بذاكرتك وقلبك ووجدانك فقد تركتْ فيكَ بصمةً لا تُنسى!

فهناك وجه برز في بالي من بين الوجوه واسم سطع على غيره من الأسماء! إنه الأستاذ كمال أستاذنا في مادتي التاريخ والجغرافية خلال المرحلة المتوسّطة لم يكن أستاذًا فقط بالنسبة لنا، بل كان أخًا كبيرًا وصديقًا طيّبًا، لا أذكر أنه نهرَ أحدنا يومًا أو تكلّم بنبرة فيها لؤم أو تعالٍ، بل على العكس كان ليّنًا وناصحًا ومرشدًا ومربيًا، والكلمة الطيبة أسلوبه والإحساس الصّادق بمشكلاتنا طريقته!

وأما أسلوبه في التعليم فقد كان مشوّقًا وجذّابًا فالقصص الغريبة هي بداية كل درس ومدخَل لافتٌ ومشوّق بالنسبة إلينا، وحصّة الأستاذ كمال كانت أقصر حصّة في الأسبوع دون أن نشعر بها، فحصّة التاريخ لم تكن تلك الحصّة الرتيبة التي ينام خلالها نصف الطلّاب بينما يتثاءب النصف الآخر! بل كانت رحلة فكرية ممتعة بين صفحات كتاب التاريخ حيث تتحوّل الآثار القديمة إلى قصور وقلاع وحصون، وحيث نلتقي بالملوك والسلاطين والقادة ونشاهد المعارك الطاحنة والأحداث المثيرة!

وأما كتاب الجغرافية فقد صار موسوعة حافلة بأخبار الفضاء والنجوم والمجرّات البعيدة وغرائب الأرض والبلدان، وتحوّلت الدروس المليئة بالأرقام إلى لوحاتٍ وأشكال فيها ما فيها من مشاهد تثير الخيال وحبّ المعرفة والاكتشاف!

كلّما تذكرتُ الأستاذ كمال ابتسمتُ وسرحت بخيالي لأعود إلى حصّته التي لا أنساها، لم يكن يبخل علينا بالإعادة المفيدة إذا تعذّر على أحدنا الفهم من المرة الأولى، ولم يهدم معنويات أيّ منّا يومًا، بل كان التشجيع عماده واكتشاف المواهب والقدرات أحد أهدافه، حقًّا لقد بنى بيننا وبينه جسرًا قويًا من الصداقة والثقة لا يزال راسخًا فينا حتى بعد سنوات طويلة مرّت!

لقد ترك فينا الأستاذ كمال أثرًا كبيرًا، وعلّمنا أننا نستطيع طالما أردنا، ووجّهنا إرادتنا نحو العمل المفيد وتوكّلنا على الله، لن أنسى عبارته التي كان يردّدها دومًا بصوته الرّخيم: «من أراد استطاع» تلك العبارة التي غرسها في قلبي لتنمو بعد ذلك وتزهر وتورق وتُثمر نجاحًا في كافة مجالات الحياة..