الحمد للّه الذي نزّل الفرقان على عبده قرءانًا عربيًّا وآتانا من هديه صراطًا مستقيمًا وتفضَّل علينا بنور الرشاد جليًّا، وصلّى وسلّم على حبيبه المرسل رحمةً للعالمين بشيرًا ونذيرًا ورسولًا ونبيًّا وعلى آله وصحبه الطيّبين، مَن سلكوا إلى رضا الله دربًا سنيًّا ونهجًا نقيًّا.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ سورة الحجرات.
رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إنّ الله لا ينظرُ إلى صُوَرِكم وأموالِكم ولكن ينظُرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم» رواه مسلم.
ليُعلم أنّ الفضلَ عند الله بالتقوى والكرامات في الطاعات والشرفَ في التنافس على الصالحات بالنيّات المخلصات ولكن قد خصّ ربّنا عزّ وجلّ من شاء بما شاء ورفع من شاء على من شاء… فجعل لأمّة النّبيّ العربيّ القرشيّ الهاشميّ خير خلقه محمّد ﷺ مرتبة الفضل على مَن سواها من أمم خلت… وقد جعل الله البشر شعوبًا وقبائل وخصّ هذه الأقسام كلًّا بعادات وصفات وأخلاق وسمات، وكان للعرب من بني يعرب ابن قحطان الذي يتصل نسبه بنبيّ الله هودٍ عليه السلام ومن بني عدنان الذي يتصل نسبه
بنبيّ الله إسماعيل عليه السلام ممّن اختارهم الله وشرّفهم ببعثة محمّد ﷺ منهم إلى العالمين حظٌّ عظيمٌ من العادات الراقية والأخلاق العالية ولا عجب فقد روى الطبراني عن ابن عباس
رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «أحبّوا العرب لثلاث لأني عربي والقرءان عربي ولسان أهل الجنة عربي«.
ولو أردنا أن نستفيض في الكلام على ما تميَّز به العرب وما كان لهم مما لم يكن لسواهم من الأمم لكلَّ البنان وجفَّ اليراع، ومن خير ما يشهد لذلك ما رواه مسلم عن واثلة بن الأسقع أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله اصطفى كنانة من وَلد إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريشٍ بني هاشم واصطفاني من بني هاشم «
وإنّ من أشهر ما عُرِفَ به العرب آدابهم وعادات خير ومزايا فضل هي حديث التاريخ ومضرب المثل وكلمة الحكماء.
فالأدب من حيث الأصل هو الدعوة إلى النافع المفيد والنهي عن القبيح في الفعل والسلوك… وقد كان مفهوم التأديب عند العرب التربيةَ على محاسن العادات التي كانت في مختلف عصورهم سادات من نخوة ومروءة وشهامة وعفّة نفس وكرم وضيافة وحفظ النسب والفصاحة والبلاغة وحصافة الرأي وحسن التصرف والتدبير… أجل هكذا كان أصل الأدب عند العرب وإن نُزِع في عصور متقدمة إلى يومنا هذا إلى ما يتعلق بالتعبير بالكلمة شعرًا ونثرًا وخطابة بقالب النحو والبلاغة والوزن والقافية وتزيين المباني واستحداث المعاني وما أشبه ذلك.
وبالتالي لا ينبغي لنا إهمال الأصل في الأدب ولا اختصار هذه الكلمة إلى ما آلت إليه. فنحن لنا شرف الإيمان والإسلام والانتساب إلى هذه الأمّة العظيمة بعربها وأعاجمها بأبيضها وأسودها وأصفرها وأحمرها ولكننا نعرف فضل الله علينا أن جعلنا ممن نطق بالعربية لغة القرءان وجعلنا من أمّة ولد فيها سيّد الناس محمّد ﷺ…
ونحن محتاجون أفرادًا ومجتمعات إلى تلك الآداب التي كانت من سمات العربيّ والمزايا والصفات التي تمدّح بها بنو عدنان من ولد إسماعيل وبنو قحطان من نسل هودٍ صلوات الله وسلامه عليهما وعلى سائر الأنبياء والمرسلين… وهي الصفات التي أمر بها ديننا وحضّ عليها ودعا إلى التنافس بين فاعليها رغبة فيما عند الله وطلبًا لثوابه ورضاه، ألسنا بحاجة اليوم أكثر مما مضى إلى النجدة والمروءة في نصرة هذا الدين وأهله… إلى إغاثة الملهوف ونصرة المظلوم… إلى إطعام الجائع وكسوة العاري… وإيواء المشردين… إلى حمية القلوب وتحرك الهمم والعزائم للدفاع عن مقدساتنا… التي تستباح من قبل أعتى الظالمين وتُدنّس من قبل أنجس المجرمين في أرض فيها الأقصى وفيها الصخرة وبركة الله في الأرض من حوله.
أفلسنا نحتاج إلى كرم النفس وجود اليد فيما بيننا لتكون الألفة وتسود المحبة وتتصل الأرحام ويتواصل الكرام ونعرف الفضل فيما بيننا لأهله…
أفما نحتاج لنَعرف مَن نحن وممّن نحن كما كان العربيّ يعدّ آباءَه وأجداده إلى عشرين وخمسين… ليؤكد الأصل ويحفظ الهوية ويعرف الأقارب والأباعد فيصل الرحم ويجعل المودة في القربى ويتعلّق بأهله ويتمسّك بأرضه ويحافظ على حقه… على ما شرّع اللهُ لا بحسب ما استفزّته العصبيّة، أفما نحتاج إلى التمكن من معرفة لغتنا وعلومها وأن نؤدب بها وعليها أبناءنا وبناتنا لنكسر صورة موج الطعن بها وأعاصير الحط من شأنها ونهزم محاولات إهمالها وتصويرها بأنها لغة صعبة المنال منيعة التحصيل ضعيفة في آفاق التعبير وهي السهلة الفخمة الفصيحة الرخيمة العظيمة المختارة لأهل الجنان لسانًا وسيّدة اللغات بلاغةً وبيانًا… ولقد قال الله تعالى في بيان يُسرها وسهولتها:
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97)﴾ سورة مريم.
وقال أيضًا: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)﴾ سورة يوسف.
ولا ينبغي أن ننسى الخط العربي والحرف العربي وهو الوعاء الأصل للكلمة العربية فلا بدّ من أن نمسك بأيدي أطفالنا بحبر العلم لتجري كلماته على سطور عربية مستقيمة تؤدي بهم إلى انسياب القلوب بحبّ العربية لفظًا وخطًّا وتعبيرًا وأداء وفصاحة، ليتقنوا قراءة كتاب الله وليفهموا المعاني الدينية من الكتاب والسنّة وشروح الحديث الشريف وأقوال علمائنا وأئمّتنا وحكمائنا… استنباطًا وفقهًا وأدبًا وشعرًا على المنوال العربي والأسلوب الصائب السويّ…
ولعل أوّل ما نحا الناس إلى إطلاق الأدب على الشعر والنثر المتّسق البليغ الفصيح فلأنه كان ذلك القالب لنقل معاني الأدب بما ذكرنا من حث على عادات الشرف والنهي عن عادات السوء حيث كانت أبيات الشعراء في كثير من الأحوال وعبارات الخطباء مفعمة بمعان حكمية وأمثال سلوكية… وكان البيت السائر في الغالب بيت الحكمة والمثل الطائر… هو مثال الصدق كما قال الشاعر:
وإنّ أحسنَ بيتٍ أنت قائلُهُ
بيتٌ يُقالُ إذا ما قلتَهُ صَدَقا
فأن نكون أدباء… في أصل الأمر وحقيقته وقد عرفنا الدّين وشرع الحق، معناه أن نكون أتقياء نحفظ هويتنا، ذواتنا وأشخاصنا، نحفظ من حولنا ونرعى حقنا ونحسن ونعطي ونتحابّ ونتباذل ونتهادى ونتواصل ونتزاور ونتشاور لساننا يقول من نحن وممّن نحن… نعتز بما هو عزّ ونتشرف بما هو شرف ونتبع ما هو حق ونلتزم ما هو مستقيم، ونطلب في ذلك كلّه أن يرضى عنا ربّنا المعبود ولا نصرف لغير وجهه نية ولا ننصرف عن هداه ونرجوه رجاء العبد الفقير لمولاه.
وسبحان الله والحمد للّه ربّ العالمين.