لم تزل محاولات الأعداء منصبّة حملة تلو حملة للنيل من عزيمة هذه الأمة وزعزعة استقرارها في شتى أنحاء البلاد التي عانت المرارة من كيدهم. ولقد نهض لدرء هذه الحملات وسدّ الثغرات رجالٌ أفذاذ شجعان استطاعوا بالصبر والعزم صدّ تلك المؤامرات. 

وصلت أمداد الفرنج في البحر من رومية الكبرى وغيرها من بلاد الفرنج في الغرب والشمال. فجهَّز الفرنج العساكر واجتمعوا بعكا من ساحل الشام. وكان الملك العادل أبو بكر بن أيوب بمصر، فسار منها إلى الشام ، فوصل إلى «الرملة»، ومنها إلى «لد» وبرز الفرنج من عكا ليقصدوه، فسار «العادل» نحوهم، فوصل إلى نابلس عازمًا على أن يسبقهم إلى أطراف البلاد مما يلي عكا ليحميها منهم، فساروا هم، فسبقوه، فنزل على «بيسان» من الأردن، فتقدم الفرنج إليه في شعبان عازمين على محاربته، لعلمهم أنه في قلة من العسكر، لأن العساكر كانت متفرقة في البلاد، فلما رأى «العادل» قربهم منه لم يرَ أن يلقاهم في الطائفة التي معه خوفًا من هزيمة تكون عليه وكان حازمًا كثير الحذر، ففارق «بيسان» نحو دمشق ليقيم بالقرب منها ويرسل إلى البلاد، ويجمع العساكر، فوصل إلى «مرج الصفر» فنزل فيه، وكان أهل «بيسان» وتلك الأعمال لما رأوا الملك العادل عندهم اطمأنوا، فلم يفارقوا بلادهم ظنًّا منهم أن الفرنج لا يقدمون عليه، فلما أقدم الفرنجة على غفلة من الناس، لم يقدر على النجاة إلا القليل، فأخذ الفرنج كل ما في «بيسان» من ذخائر قد جمعت، وكانت كثيرة، وغنموا شيئًا كثيرًا، ونهبوا البلاد من «بيسان» إلى «بانياس»، وبثوا السرايا في القرى، فوصلت إلى «خسفين»، و«نوى» وأطراف السواد، ونازلوا «بانياس»، وأقاموا عليها ثلاثة أيام، ثم عادوا عنها إلى مرج عكا ومعهم من الغنائم والسبي والأسرى ما لا يحصى كثرة، سوى من قتلوا وأهلكوا، فأقاموا أيامًا استراحوا فيها، ثم جاؤوا إلى صور، وقصدوا بلد الشقيف، ونزلوا بينهم وبين «بانياس» مقدار فرسخين، فنهبوا بلاد صيدا والشقيف، وعادوا إلى عكا، وكان هذا من نصف رمضان إلى العيد، والذي سلم من تلك البلاد كان نادرًا، ولقد كان «العادل» لما سار إلى «مرج الصفر»، رأى في طريقه رجلًا يحمل شيئًا، وهو يمشي تارة وتارة يقعد ليستريح، فذهب «العادل» إليه وحده فقال له: يا شيخ لا تعجل، وارفق بنفسك، فعرفه الرجل، فقال: يا سلطان المسلمين أنت لا تعجل، فإنا إذا رأيناك قد سرت إلى بلادك وتركتنا مع الأعداء كيف لا نعجل؟ قال المؤرخ ابن الأثير: «وبالجملة الذي فعله «العادل» هو الحزم والمصلحة لئلا يخاطر باللقاء على حال تفرّق من العساكر». ولما نزل «العادل» على «مرج الصفر» سيّر ولده الملك المعظم عيسى وهو صاحب دمشق في فرقة كبيرة من الجيش إلى نابلس ليمنع الفرنج عن بيت المقدس.

ذكر حصر الفرنج دمياط إلى أن ملكوها

لما دخلت سنة 615 للهجرة سار الفرنجة في البحر إلى دمياط، فوصلوا في صفر وقد بنى أهل مصر في النيل برجًا كبيرًا منيعًا، وجعلوا فيه سلاسل من حديد غلاظ، ومدوها في النيل إلى سور دمياط لتمنع المراكب الواصلة من البحر المالح أن تصعد في النيل إلى ديار مصر، ولولا هذا البرج وهذه السلاسل لكانت مراكب العدو لا يقدر أحد على منعها عن أقاصي ديار مصر وأدانيها، فلما نزل الفرنج على برّ الجيزة، وبينهم وبين دمياط النيل، بنوا عليهم سورًا، وجعلوا خندقًا يمنعهم ممن يريدهم، وشرعوا في قتال من بدمياط، وعملوا آلات ومرمات وأبراجًا يزحفون بها في المراكب إلى هذا البرج ليملكوه، وكان البرج مشحونًا بالرجال، وقد نزل الملك الكامل ابن الملك العادل، وهو صاحب دمياط، وجميع ديار مصر بمحلة تعرف بالعادلية بالقرب من دمياط، والعساكر متصلة من عنده إلى دمياط ليمنع العدو من العبور إلى أرضها، وأدام الفرنج قتال البرج وتابعوه، فلم يظفروا منه بشىء، وكسرت مرماتهم وآلاتهم، ومع هذا فهم ملازمون لقتال البرج، فبقوا كذلك أربعة أشهر، ولم يقدروا على أخذه، ثم بعد ذلك ملكوا البرج، فلما ملكوه قطعوا السلاسل لتدخل مراكبهم من البحر المالح في النيل، ويتحكموا في البر، فنصب الملك الكامل عوض السلاسل جسرًا عظيمًا امتنعوا به من سلوك النيل، ثم إنهم قاتلوا عليه أيضًا قتالًا شديدًا كثيرًا متتابعًا حتى قطعوه، فلما قطع أخذ الملك الكامل عدَّة مراكب كبار وملأها وخرقها وغرقها في النيل، فمنعت المراكب من سلوكه، فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجًا هناك، يعرف بالأزرق، كان النيل يجري عليه قديمًا، فحفروا ذلك الخليج، وعمقوه فوق المراكب التي وُضعت في النيل، وأجروا الماء فيه إلى البحر المالح، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يقال له: «بورة» على أرض الجيزة أيضًا مقابل المكان الذي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك، فإنهم لم يكن لهم إليه طريق يقاتلونه فيها، كانت «دمياط» تحجز بينهم وبينه، فلما صاروا في «بورة» حاذوه، فقاتلوه في الماء وزحفوا إليه غير مرة، فلم يظفروا بطائل، ولم يتغيّر على أهل دمياط شىء لأن الميرة والأمداد متصلة بهم، والنيل يحجز بينهم وبين الفرنج فهم ممتنعون لا يصل إليهم أذى، وأبوابها مفتحة، وليس عليها من الحصار ضيق، ولا ضرر، ثم حصل أن الملك العادل توفّي في جمادى الآخرة من سنة خمس عشر وستمائة فضعفت نفوس الناس وبقي الحال هكذا من مقاتلة العدو.

بعد ذلك حصل مد وجزر ومعارك الى أن آل الأمر إلى سيطرة المسلمين على كامل دمياط ورحيل جيش الفرنجة عن البلاد..