الحلقة الثانية…
هرع أهل دلال إلى المستشفى بعد أن اتصلت بهم إدارتها وأدخلت ابنتهم غرفة الطوارئ فقد كانت حالتها حرجة جدًّا، وأدخلت بعدها إلى غرفة العمليات ووقف أهلها في غرفة الانتظار وأمها في حالة يرثى لها، والوالد كان يحاول مواساتها وتهدئتها لكن دموعه كانت تغلبه أحيانًا فينهار هو الآخر.
مرت الساعات بطيئة، ثقيلة، وعيونهم ترصد باب غرفة العمليات بانتظار أحدٍ يبُثُّ ولو بصيص أمل في نفوسهم، فهي دلال ابنتهم الصغيرة المدللة، التي لطالما حظيت بحبّهم واهتمامهم بها طيلة سنوات حياتها الماضية، عانقت أختُها الكبرى سعاد والدتها، وقالت: أرجوك يا أمي ادعي لها، هي بحاجة له الآن، عسى أن يشفيها الله ففتحت الأم يديها ودموعها تتساقط عليها وأخذت تدعو لابنتها بأن يزول عنها الخطر، وبعد دقائق خرج الطبيب من غرفة العمليات فأسرعوا نحوه ينتظرونه أن يتكلم فقال لهم: إن الرضوض في جسدها ووجهها شديدة جدًّا نحن فعلنا ما بوسعنا، الآن هي تحت المراقبة لثمانٍ وأربعين ساعة سيبقى عليها الخطر ادعوا لها…
وكادت والدتها تقع أرضًا من شدة الصدمة، وأخذ الجميع يبكون خوفًا على دلال، كيف يا ترى ستكون تلك الساعات القادمة؟
لم تقبل أم دلال ترك المستشفى بل أصرّت على البقاء قريبة من ابنتها وقضت أوقاتها بالبكاء والقلق لكن الصلاة والدعاء كانا يبعثان الأمل في نفسها وانقضت الساعات التي حدّدها الطبيب حتى يزول الخطر عن دلال.
واطمأن أهلها لهذا، وأخبرهم الطبيب بأن وضعها الآن جيد لكن فترة العلاج طويلة، وقال لهم: أرجوكم أن تتقبّلوا الأمر كما هو، إن ابنتكم تعاني الآن من تشوهات في وجهها بليغة جدًّا، فالضربة المباشرة أثرت في وجهها أكثر من أي شىء آخر، وقد نضطر للعمل على نفسية المريضة مع العلاج الجسدي، فأرجو أن تتعاونوا معنا فتقبل أهلها ما سمعوه بصبر، يرافقه أمل في الشفاء، ثم بدأت رحلة العلاج، وبقيت دلال في المشفى أيامًا طويلة، تتعالج من الرضوض التي في جسدها، وكانت الضمادات تغطي وجهها، الذي لم يظهر منه إلا القليل بسبب «الشاش»، وكانت دلال تسأل باستمرار، ما الذي حصل لي؟ ماذا حصل لوجهي؟ فيجيبها الطبيب. بأنها الآن في مرحلة العلاج ومع مرور الأيام ستتعافى إن شاء الله، وأنهم سيعالجون لها كل الرضوض ولا داعي للقلق، فتطمئن وتهدأ، وهكذا، وبعد مرور وقت طويل تحسنت صحة دلال وعادت كما السابق، لكن الشاش ما زال يغطي وجهها وعادت إلى البيت على أن تكمل علاجها فيه، وبالفعل صارت من وقت لآخر تزور المستشفى لتغير الشاش وتكمل العلاج، وأخيرًا حان الوقت لإزالتهِ عن وجهها لأن جروحها التأمت، وبعد أن أزاله الطبيب نظرت والدتها إليها ولم تتمالك نفسها فخرجت من الغرفة كي لا تراها دلال وترى أثر الصدمة عليها فقد أجهشت بالبكاء من هول ما رأت، أما دلال فلقد تحسست وجهها بيدها وطلبت المرآة، فحضّرها طبيبها نفسيًّا، وطلب منها الهدوء، وأن ما ستراه سيُعالج بعد ذلك وستكون أفضل إن شاء الله، فنظرت إليه مستغربة وأخذت المرآة وبيد مرتجفة رفعتها ببطء وخوف لتصعق من منظرها، يا إلهي ما هذا!!!؟ صرخت بصوت مرتجف، لقد تشوهت!! لقد تشوهت!! فآثار الحادث قد خطت خطوطًا عميقة في وجهها، فبدا وكأنه خريطة متعرجة، أو أثلامًا في حقل. فغطته بيديها وأخذت تشهق شهقات سريعة، وتئن أنينًا متواصلًا، وأصابتها نوبة بكاء شديدة فدخل والداها يضمانها ويهدئانها ويبكيان لمنظرها المؤلم ووالدها يقول لها: اصبري يا ابنتي فهذا ما قدّره الله عليك، هذه مشيئته يا ابنتي اهدأي أرجوك، لقد تقدم الطب، وقد تتعافين يا حبيبتي… ألقت دلال بنفسها فوق الأريكة فرجلاها لم تعودا تحملانها فجلست والصدمة في عينيها: وقالت: أرأيت يا أبي ما الذي حصل لي؟ ،كنت أريد المزيد والمزيد، آه يا والدي كم نصحتني ولم أنتصح كم قلت لي أنتِ بِنعم كثيرة يا دلال، وانهارت وشعرت بعظم ما فعلت فعانقتها أمها، وصارت تواسيها وهي تبكي بحرقة الأم العطوف، أفاقت هذه البنت من غفلتها لكن بعدما دفعت الثمن غاليًا، فقضت أوقاتها بالندم وتأنيب الضمير، وكم وكم تذكرت تلك الأيام عندما كان وجهها صافيًا كالمرآة، وكيف كانت تريد أكثر وأكثر.
لقد عرفت الآن كم كانت كثيرة النعم وعرفت أن جمال الإنسان ينبع من داخله فإن رَضي عن نفسه وشعر بالقناعة فسيرضى عن ظاهره مهما كان، وهكذا صارت دلال بعد ذلك تتجمَّل بنور الطاعة والعبادة ووجدت حلاوتها في قلبها ونهجت نهجًا سليمًا أسرى بالدفء إلى نفسها والراحة بعد تخبطٍ وعناء لأجل أشياء زائلة في هذه الدنيا الفانية…
سر القناعة… الحلقة الأولى
https://manarulhudamag.com/237_20/