الشيخُ المحدّثُ الفقيهُ خادِمُ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ المـُطهَّرةِ عبد الله بن محمد بن يوسف الهرري رضيَ الله عنهُ وأرضاه في زمن ساد فيه الجهل والفساد والإفساد وكثر فيه أهل الضلال والإلحاد، وكاد الحقُّ أن يُزهق، وعَلَتْ أسافلُ الناس… وتنطَّع الجهال -أي تعمّقوا- وصاروا يتحدثون باسم الدين وأفتوا بغير علمٍ وليس ثمة وازعٍ أو رادع… وعزَّ النصير في زمن خطِر وعلا الدرهم والدينار فظهرت ملايين الأموال التي أغدقت النواحي والبلاد والعباد، وصار ما كان أيام الأجداد من عِزّ ومن فخرٍ ومجالس علمٍ تتلى فيها أغلب العلوم كخيال..
وفي خضم هذه المعمعة الخطيرة التي أصابت الأمة في صميم دينها وأظلمت الدنيا وعَمَّ الديجور، جاء أسدُ الشريعة والطريقة من هرر فأنار الدروب ونظَّم السكك بالعلم الصافي على منهج رسول الله ﷺ وصحابته الغرّ الميامين وأبان الحق وزهد بما في أيدي الناس فأحبّه الناس وأحبَّ ما عند الله فأحبّه الله.
عندما حلَّ الشيخ عبد الله الهرري في لبنان شرع بتعليم الناس عقيدة أهل السنّة والجماعة في تنزيه الله عمّا لا يليق به وبيان ما جاء به النبيّ ﷺ من الدين فأحيا عقيدة النبيّ ﷺ وأصحابه بين الناس بعد أن كادت تختفي من كلام المشايخ مع عامة الناس.
وقد بدأ بنفسه فردًا ثم مع مساعدة من بعض المشايخ في بيروت، عمل بلا تعب ولا ملل في إصلاح ما فسَدَ من عقائد الناس، وزرع بذور الخير فأتى حساب الزرع مطابقًا لحساب البيدر.
كان رحمه الله تعالى مخلصًا وفيًّا فأحبّه الصغير كما الكبير، حمل راية التوحيد في زمنٍ خيّمت فيه الظلمات فأناره بالعلم واشتُهر بمعلّم التوحيد، واجتمع حوله أهل الفهم والدراية وكبار الأعيان وأقرّوا بفضله وسعة علمه رحمه الله تعالى.
وتحلّق حوله طلاب ومريدون وازداد عددهم بفضل الله تعالى فنهلوا من بحرِ الشريعة العلوم والمعارف والخصال المحمّديّة الحميدة، وعلّمهم حُبَّ النّبيّ ﷺ والآل والصحب الكرام فسرى سرّه في أحبابه فنهجوا على هذا الطريق القويم.
وكان دأبه رحمه الله تعالى التذكير بالآخرة والتحذير من الدنيا الفانية وأن يجعل كل واحد من طلابه همّه همًّا واحدًا وهو تعليم الناس أمور دينهم ونشر عقيدة الأنبياء والمرسلين عقيدة التنزيه والتوحيد للنجاة في القبر ويوم القيامة وهذا من حُبّ الخير للغير.
سيرته
كانت سيرته محمودة رضي الله عنه وهمّته عالية، وكان صافي السيرة والسريرة، بارك الله له في دعوته الحقة فعمّت القارات والبلاد، وانتشر تلامذته في تعليم علم الدين الضروري في كل مجلس وساحة فأضاءت بيروت بعلم التوحيد وبمعلّم التوحيد.
لم يكن الشيخ عبد الله رحمه الله تعالى ذا فضل على أتباعه فقط بل إن الأمر تعدّاهم إلى سواهم من الناس، وظهر واضحًا لكل ذي بصيرة أن الشيخ عبد الله رحمه الله، مع ما انطوى عليه من التواضع والحياء والزهد في الدنيا قد حوى فيوضات وأسرارًا ظهرت في نشر الدعوة والمفاهيم السليمة والسير على نهج الاعتدال ونبذ التطرف البغيض الذي جثم على صدر هذه الأمة مدة طويلة. وصار طلابه فرسان العلم في الساحات تردُّ شُبَه الضالّين والمضلّين والمشوشين بالبرهان والدليل العقلي والنقلي والحمد للّه ربّ العالمين.
أرشد إلى ضرورة بناء المؤسسات التي عَلَتْ أركانها علمًا وثقافة، وأرست مفاهيم الدين الحنيف وبيّنت الغثَّ من السمين فكانت مناهل خير أثمرت جيلًا واعدًا يتطلع إلى الخير في بناء الوطن.
رحمه الله تعالى
ولمّا كان الموت حقًّا وسيفًا مُصْلطًا يذوق حدّه كل إنسان على وجه الأرض رحل الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله عن هذه الدنيا وقد ترك خلفه إرثًا كبيرًا راسخًا ممهورًا ببصمات الحق والصدق والإخلاص وبثوابت خطّها رحمه الله بكل أمانة…
لا يسعنا في هذا الموقف إلا أن نقول له افتقدناك كثيرًا والشوق يُحرك فينا لواعج الحبّ والغصة في الحناجر واللوعة في القلوب… رحلت رحيل الكبار فعسى أن نلقاك في جنات النعيم في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر… ونعاهدك أننا أوفياء على ما حمّلتنا من أمانة، وسنمضي
إن شاء الله تعالى قُدُمًا على نفس الخط والنهج الذي رسمتَهُ لنا، جزاك الله عنَّا خير الجزاء…