في كل عام وفي شهر ذي القعدة تتحرك أفواج الحجيج من كل المعمورة قاصدة البيت العتيق وزيارة النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. فالحجُ عبادة جليلة وفريضة عظيمة الشأن، يبذلُ المسلم من أجل شهودها الغالي والنفيس، ويبتعدُ عن الأوطان ويُفارق الأهل والأولاد والإخوان، وينفقُ الأموال، كل ذلك حبًا في الله وطلبًا لرضاه وثوابه ومغفرته، والله تعالى وعد الحجيج بالمغفرة والعود كيوم ولدتهم أمهاتهم، وهذا الذي صحت به الأخبار، فقد روى الإمام أحمد أنّ النبّي صلى الله عليه وسلم قال: “من حج فلم يرفُث ولمْ يفسُق رجع كهيئتهِ يوم ولدتهُ أمهُ“، ومن أوضح معالم الحج تلك التلبية التي يبدأ الحاجُ بترديدها منذ بدء النُسك وهي لبيك اللهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك…، ذكرًا يُردد في جنبات الكعبة المشرفة فيه معاني توحيد الله تعالى ونبذِ الإشراك به ونفي التشبيه والنقص عنه تعالى، لبيك يا رب يا من لا شريك لك لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال، فهو تعالى لا يشبهُ شيئًا ولا يشاركُه شىء في صفاته الأزلية الأبدية، فيحسن بالحُجّاج أن يستحضِروا ما دلّت عليه هذه الكلمات من معانٍ، وينبغي للمسلم أن يكون على دراية بهذا المعنى في حياته كلّها، محافظًا عليه في كلّ حين وآن، مُراعيًا له في كلّ جانب، لا يعبدُ إلا الله الواحد الذي لا شريك له الصمد الذي لا يحتاج لأحد، بل العالم كله بحاجة إلى الله الربّ العظيم الذي كان قبل كُل شىء لا يحتاج لا للمكان ولا للسماء ولا للعرش. وفي التلبيةِ مدلولاتٌ على أنّ التوكّل إنما هو على الله وأنّ المؤمن ثقته بالله، وأنّ الأمر كلهُ لله، لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منعْ، وكأنّ الحاج في التلبية يقول أنا مُقيمٌ على هذه المعاني وعلى طاعة الله ما حييتُ. أيّها الحاجّ القادِم إلى بلاد مباركة وأعمال طيبة، قد أكرمك الله تعالى بحجِّ بيتِه ويسّر لك فاجتهِد في إتمامِ نُسُكك امتثالًا لقول الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ سورة البقرة/196. وإتمامُه يكونُ بالإخلاصِ لله عزّ وجلّ والحِرص على اتِّباع السنة والاقتداءِ بالنبيّ الذي قال: “خذوا عني مناسككم” رواه البيهقي، والإتيانِ بشرائطِ الحجّ وواجباته كاملةً، كما ينبغي السؤالُ عن الأحكام الشرعية قبل الشروع في العمل، فكم من حاجٍّ يذهب ويعود بغير الذي كان يرجو، بسبب الجهل والتكاسل عن تعلم مناسك الحج، فاتّقوا الله وأتمّوا الحجّ والعمرة لله كما أمر الله لا كما تهوى الأنفس، فاحرص أيّها الحاج على أداءِ النُسك صحيحًا، واعقد توبةً صادقة سائلًا الله أن يعفو ويغفر، وقل اللهمّ إنيّ أُبرئُ نفسي من كلِ مُخالفة شرعية ثمّ أحرِمْ بالحج بنيةٍ صادقة، وتجنب محرمات الإحرام ثم طُفْ بالبيت طاهرًا سبع مرات، وقف بعرفة داعيًا خاشعًا باكيًا نادمًا، واسْعَ كسعيِ أم إسماعيل سبعًا مبتدئًا بالصفا منتهيًا بالمروة، ثم قصِر شعرك أو احلقه، وانحر هَدْيَك، وارمِ الحصى تعبدًا كفعل نبي الله إبراهيم عليه السلام، ولا تنس التضلُّع والإكثار من ماء زمزم المبارك فاشرب وادع الله بعد شربها، وأكثر من الصلاة ومن الدعاء، واحرص على الزيارة المباركة لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند القبر متذكرًا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حيٌ في قبره يسمعُ سلام المسلِّمين عليه، وعشْ أوقات الأنس في ذلك الموقف المهيب أمام حُجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم واسأل الله الشفاعة ولا تلتفت للمُخالفين المانعين لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، فهي سُنةٌ بالإجماع للمقيمين بالمدينة ولأهل الآفاق القاصدين بسفرهم زيارة قبره الشريف، وهي من القُرب العظيمة، واعقد أخي المسلم في قلبك النية على زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ويُستحب لك أن تنوي مع زيارته صلى الله عليه وسلم التقرُّب إلى الله تعالى بالسفر إلى مسجده والصلاة فيه، روى الحافظ الطبراني والحافظ سعيد بن السّكن في كتابه السُّنن الصّحاح وصحّحه من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من جاءني زائرًا لا تحمله حاجة إلا زيارتي كان حقًّا عليّ أن أكون له شفيعًا يوم القيامة“، وروى الدارقُطني والبزّار بإسنادهما عن ابنِ عمر رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “من زار قبري وجبت له شفاعتي“، صححّه الحافظ تقي الدين السبكي ووافقه الحافظ السيوطي. ومشروعية زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم محل إجماعٍ، وقال القاضي عياض اليحْصبي المالكي عالم المغرب في زمانه في كتابه “الشفا بتعريفِ حقوق المصطفى”: “وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم سُنّة من سُنن المسلمين مُجمعٌ عليها مُرغّبٌ فيها”، وذكر ابن قدامة المقدسي في كتابه “المغني”: “ويُستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما روى الدارقطني عن ابنِ عُمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي“، وحديث: “من زار قبري وجبتْ لهُ شفاعتي“، أخرجه الدارقطني”، وتكون الزيارة المشرفة بعد صلاة ركعتي تحية المسجد وتحصل بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم عند قبره الشريف.
أيها الحُجاجُ في رحلتكم تربيةُ النّفوس على معانٍ من الخير ومكارم الأخلاق، كالصّبر والتحمّل والعفو والنفقة والبذل والإحسان وحفظ اللسان والبصر والجوارح من المعاصي، وتعليمِ الجاهل وإعانة الضعيف، وإنمّا شُرعت الطاعات والقُرُبات لعبادةِ الله فلا يغفلنّ الحاج أن يخلص النية لوجه الله تعالى، وفي أعمال الحج تهذيبُ النّفوس وترويضُها على الفضائِل وتطهيرها من النقائص وتحريرُها من ذل الشّهوات والرقيُّ بها لأعلى المقامات، وهناك في الحج ترى اجتماع الناس من بلاد شتى وألوان مختلفة فتذكر يوم الحشر والقيامة حين يقوم الناس من قبورهم ليس معهم شىء إلا من كان زاده التقوى، فتزودوا من التقوى فهي خير الزّاد، ولا تغفلوا بل تنافسوا وتسابقوا للخيرات فأنتم في بلد الله الحرام، جعل الله حجكم مقبولًا وسعيكم مشكورًا وذنبكم مغفورًا وردّكم الله سالمين غانمين، وإنّي سائلٌ من قصده الحج هذا العام أن يدعو بخيرٍ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم وأحكم.