الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا.
وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا محمد إمام كل إمام وعلى ءاله وصحبه ما كبر داع وحج أقوام.
اللهم علمنا ما جهلنا وذكرنا ما نسينا وزدنا علما ونعوذ بك من حال أهل النار وبعد:
يقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (سورة النساء/ 64).
اعلم أن من جملة القُرب والمستحبات العظيمة التي يحظى صاحبها بوافر الأجر ويسعد فاعلها بالخير والعز وينال بها ذخرًا كثيرًا وزادًا حسنًا ينفعه في قبره وفي ءاخرته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، زيارة قبر النبي الأعظم والرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وزيارته عليه الصلاة والسلام سنة بالإجماع أي إجماع أئمة الاجتهاد الأربعة وغير الأربعة من مشاهير علماء المسلمين وكبارهم ممن يُعِوّل عليهم ويعتمد على أقوالهم في الأحكام والفُتيا ويعتد بما يقولون وما يقررون. وهي للمقيم بالمدينة ولأهل الآفاق من غير أهل المدينة من سائر المسلمين في أقطار الدنيا من مشارق الأرض ومغاربها، وهي من القرب العظيمة النافعة، ومن هنا يعلم أن من خص مشروعية زيارة القبر الشريف لغير القاصد بسفره زيارة القبر، ومن حرم السفر لزيارة قبره الشريف عليه الصلاة والسلام لا يجوز العمل بكلامه بل يجب نبذه والإعراض عنه لمخالفته النصوص الحديثة والآثار الصريحة التي تدل بوضوح كالشمس على استحسان الصدر الأول لهذا الأمر وقصدهم زيارة قبره الشريف عليه الصلاة والسلام ولو كانت لا تُعملهم حاجة إلا زيارة القبر الطاهر المبارك.
ومما يؤكد صحة ما نقول م ا رواه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير والأوسط عن الصحابي الجليل سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وهو أحد مشاهير كبار الصحابة وأول من نزل الرسول الكريم ضيفًا في بيته بعد الهجرة، جاء ذات يوم إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع وجهه على القبر تبركًا وشوقًا.
وتمام الرواية كما في المسند قال “أقبل مروان يومًا فوجد رجلاً واضعًا وجهه على القبر فقال أتدري ما تصنع فأقبل عليه أبو أيوب فقال: نعم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ءات الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله” فقف منصفًا متنبهًا لفعل أبي أيوب كم ينتفع منه من منافع عظيمة وكم يؤخذ منه من فوائد ودلائل تثبت جواز قصد الزيارة والتبرك بآثاره عليه الصلاة والسلام، فإنه أعلم وأفقه من مشوشة هذا العصر، ألم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام: “من جاءني زائرًا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقًا عليَّ أن أكون له شفيعًا يوم القيامة”، أخرجه الطبراني. وفي حديث ءاخر عن ابن عمر أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “من زار قبري وجبت له شفاعتي” أخرجه الدارقطني، وفي مستدرك الحاكم: “ليهبطن عيسى ابن مريم حكمًا عدلاً وإمامًا مقسطًا وليسلكن فجًا حاجًا أو معتمرًا أو بنيتهما وليأتين قبري حتى يسلم عليّ ولأردَّنَّ عليه”، وعليه فالزم أخي المسلم الحق واثبت عليه في مدى الأزمان، وإياك وكلام أفّاك بَغِيض يفهم النصوص على غير المراد ويتأول على غير الوجه الصحيح، فكم وكم ابتليت الأمة قديمًا وحديثًا برَعاع شذّاذ فتنوا وخرجوا عن الاتباع إلى طريق الابتداع، نسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة.
نقل تقي الدين الحصني إجماع الأمة
على استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
وروي عن سيدنا بلال بن رباح أنه لما كان ببلاد الشام رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا فقال له: ما هذه الجفوة يا بلال؟ وهذا فيه عتاب لطي لهذا الصحابي الجليل الذي قام لما استيقظ فشد رحله متوجهًا نحو القبر الشريف حتى قدم المدينة ودخل إلى الحجرة المعظمة يبكي ويمرغ وجهه على التراب. ولم يكن سفره هذا لحاجة غير أنه أراد زيارة القبر الشريف فحسب، أفيكون مشركًا بهذا الفعل، لا وحاشى بل هو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: “أين أنتم من بلال أين أنتم من رجل من أهل الجنة” وقصة بلال هذه رواها السمهودي في وفاء الوفاء.
وعليه فلما كان هذا الأمر قربة ومستحبًا فقد نصَّ على ذلك أئمة جهابذة، قال التقي الحصني في “دفع شُبه من شَبَّهَ وتمرد”: “وقالت الحنفية إن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل المندوبات والمستحبات”، ثم قال: “وممن صرح بذلك الإمام أبو منصور محمد الكرماني في مناسكه والإمام عبد الله بن محمود في شرح المختار وقال الإمام أبو العياض السروجي: “وإذا انصرف الحاج من مكة شرفها الله تعالى فليتوجه إلى طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيارة قبره فإنها من أنجح المساعي”. وفي نفس المصدر لتقي الحصني أيضًا قال: “والنقول في ذلك كثيرة جدًا وفيها الإجماع على طلب الزيارة بعدت المسافة أو قصرت وعمل الناس على ذلك في جميع الأعصار من جميع الأقطار”.
فإذا عرفت هذا أيها المؤمن الخالي من البدعة والهوى فينبغي لك الثبات ونبذ قول المخالفين ودحض شبههم وإن كثرت، ثم اذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: “من زار قبري وجبت له شفاعتي” أخرجه الدارقطني.
ءاداب الزيارة:
تسن الزيارة المشرفة وتكون بعد صلاة ركعتي تحية المسجد وتحصل بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم عند قبره الشريف. والأدب في ذلك أن يقابل الزائر الجدار متنحيًا نحو أربعة أذرع غاضًا طرفه ممتلىء القلب بالإجلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول بصوت متوسط: “السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا نبي الله السلام عليك يا خيرة الله السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا صفوة الله السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين السلام عليك يا خير الخلق أجمعين، السلام عليك يا قائد الغُرّ المحجلين السلام عليك وعلى ءالك وأهل بيتك وأزواجك وأصحابك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء والمرسلين”.
ولا ينبغي أن يخلي موقفه ذلك من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
ومن اقتصر على قول “السلام عليك يا رسول الله” ثم تنحى إلى اليمين مقدار ذراع فسلم على الصديق رضي الله عنه، ثم تنحى قدر ذلك وسلَّم على الفاروق رضي الله عنه ثم عاد إلى موقفه الأول فقد أدى السلام كما ينبغي. ثم يتوسل بالمصطفى في نفسه ويتشفع به إلى ربه ثم يستقبل القبلة ويدعو لنفسه ولمن شاء. وإن أوصاه أحد بالسلام فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان أو يقول فلان يسلم عليك يا رسول الله.
تنبيه:
قال الإمام مالك: “أكره أن يقول زرت قبر النبي” وقد حمله أصحابه أي أهل مذهبه على أنه كره هذا اللفظ أدبًا فلا حجة فيه للمنع؛ لأن الإمام مالكًا رأى أن قول الزائر: زرت النبي، أولى بالأدب من أن يقول: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا توجيه وجيه فتنبه وكن على علم ورشاد والله سبحانه أعلم وأحكم.
اللهم ازرقنا زيارة الرسول محمد ورؤيته وشفاعته يا ارحم الراحمين.