بِسم الله الرّحمنِ الرّحيمِ، الحمد للّه الذي أكرمنا بنعمةِ الإيمانِ وجعل صيامنا في شهرِ رمضان، وأصلّي وأسلّم على المبعوثِ رحمةً للعالمين سيّدِ الأوّلين والآخرين وعلـى جميعِ إخوانِه النّبيين والمرسلين.
أما بعد، فقد قال الله عزّ وجلّ في محكم التنزيل: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءانُ هُدًى للنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ منَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ سورة البقرة/185.
بالحب نستقبله، وبعاطر التحايا نحييه، وبأشواق الفؤاد نلقاه، فله في النفس مكانة، وفي حنايا الفؤاد منزلة.
به يسعد المؤمنون، ويستبشر المتّقون، فيعمرون المساجد، ويقبلون على القرءان، ويتلذذون بمناجاة الرحمـــٰـن، ويتصدقون على المساكين.
العيون تدمع، والقلوب تخشع، والرقاب لربّها تخضع، تختلط دموع التائبين بلذة الخاشعين.
إنه زين الشهور شهر رمضان، وأنيس الذاكرين، وفرصة التائبين.
إنه شهر الخير الذي قال فيه الحبيب المصطفى ﷺ: «إذا جاء رمضان فتّحت أبواب الجنة وغلّقت أبواب النار وصفّدت الشياطين». متفق عليه.
إنه شهر البركات الذي إذا صمت نهاره غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك، فقد قال ﷺ: «مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم مِن ذنبه». متفق عليه، وإذا قمت ليله غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك، فقد قال ﷺ: «مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم مِن ذنبه» متفق عليه.
إنه شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة، وشهر الطاعة والرحمة، وشهر نزول القرءان هدى للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان.
إنه حبيب المتقين، وقد كان سيّد المتقين ﷺ يهتم به فلقد كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، ويكثر فيه من ذكر الله.
فعنِ ابنِ عبّاسٍ أنه قال: «كان رسول الله ﷺ أجودَ النّاسِ، وكان أجودَ ما يكون فـي رمضان حِين يلقاه جِبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلةٍ مِن رمضان فيدارِسه القرءان، فلَرسولُ الله أجودُ بِالخيرِ مِن الرّيحِ المرسلة».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «من نفّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربةً من كرب يوم القِيامةِ، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرةِ، ومن يسّر على معسِرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرةِ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمِس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السّكينة وغشِيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله عزّ وجلّ فيمن عنده، ومن بطّأ به عملُه لم يسرِع به نسبه». أخرجه ابن أبـي شيبة. فحريٌّ بنا في هذا الشهر أن نسعى لتنفيس الكربات عن المؤمنين ونمدّ يد العون للمحتاجين منهم وأن نعمر مساجد الله ونقتبس من حلقات العلم التي تُعقد في المساجد في هذا الشهر الكريم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللهِ ﷺ: «من أصبح مِنكم اليوم صائِمًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمن تبِع مِنكم اليوم جنازةً؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمن أطعم مِنكم اليوم مِسكينًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا. قال: فمن عاد مِنكم اليوم مرِيضًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا. فقال رسول اللهِ ﷺ: ما اجتمعن في امرِئٍ إلا دخل الجنّة». أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
ولقد اقتدى برسول الله الصحابةُ الكرام والصالحون المتّقون وروتِ الكتبُ الكثيرَ عن هؤلاء الكرام الذين ضربوا أجمل الأمثلة في المسارعة إلى الخيرات. كيف لا ولشهر رمضان فضائلُ لا تحصى، ويكفي فيه شرفًا وفضلًا ما ورد فيه من آيات في محكمِ التنزيل تُقرأ وتُتلى وأحاديث تروى.
وفي هذا الشهر يتربّى الـمؤمن الصّائم ويتمرّن على إمساك لسانه ولجمه عن كلّ ما من شأنه أن يؤدي به إلى الخسارة في الدنيا والآخرة، والتخلّصِ من حبائله وحصائده الـمهلِكة والـمُكِبّةِ لصاحبها في النار على وجهه.
إن الصوم تربيةٌ عمليةٌ على الإخلاصِ والإحسانِ والصّدقِ والصّبرِ والحلمِ والتواضعِ والحياءِ والزهدِ والقناعةِ والتّسامحِ والأمانةِ وحسنِ الـمعاملة وغيرها من أمهاتِ الأخلاقِ التي جاء بها الإسلام وحثّ عليها ورغّب فيها، كما أنّه يطهّر النفوس الـمؤمنة من رذائل الأخلاقِ كالبخلِ والكِبرِ والحسدِ والرّياءِ وغيرِها.
وهو موسمٌ لصلاحِ ذاتِ البينِ والتّغلّبِ على الخصومات والـمشاحنات بين أهل الإيمان، وموسمٌ لمضاعفةِ بِرّ الوالِدينِ وصلةِ الأرحامِ والإحسانِ إلـى الجيران وترسيخ الإخاء بين الإخوان.
وشهر رمضان فرصةٌ لِيُقبِل الإنسان على مجالسِ العلمِ والتلقي مِن أهل العلم والثقة والفهمِ. فالـمؤمن الصالح هو الذي يقوم بِحقوقِ اللهِ وحقوقِ العِباد، يعرِف ما افترض الله عليهِ فيؤديه، ويعرف ما حرّم الله عليهِ فيجتنبه، يصلّي كما أمر الله، ويصوم كما أمر الله، ويزكّي كما أمر الله، ويأمر بالـمعروف وينهى عنِ الـمنكر، وإنما يتأتى هذا كلّه بتعلّمِ علمِ الدين. فمن علاماتِ علوّ الهمة عند الـمرءِ اهتمامه بتحصيل العلم الشرعيِ وصرف الوقت لأجله، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9)﴾ سورة الزمر، وقال ﷺ: «من يرد اللهُ به خيرًا يفقّهه في الدِين» متفقٌ عليه. والفِقه معرفة النّفس ما لها وما عليها.
لقد أمر الله تعالى بالمسارعة إلـى الصالحات والمسابقة في عمل الخيرات، ووصف عزّ وجلّ المؤمنين المتقين بأنهم يسارعون في الخيرات ويتسابقون إلى فعلها فقال في سورة آل عمران: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)﴾.
ومعلوم أن فعل الخيرات في ديننا الحنيف له سبله المتنوعة وطرقه المتشعّبة فلا يتوقف عند الزكوات والصدقات بل يشمل كلّ قول حسن وكلّ فعل طيّب فالعُقبى الحسنة لمن سابق الناس فـي فعل الخيرات واجتناب المنكرات. فبادرْ إلـى الخيرات وسارعْ إلـى الصالحات تنَلْ البركات وتنل المرضاة من ربّ العباد.
وهذا شهر رمضان قد أقبل فاحرص فيه أيها المؤمن على صلاة خاشعة، وصدقة على مسكين، واعتكاف في مسجد وتفطير للصائمين، وتلمّس لاحتياجات الفقراء والمساكين.
فرمضان شهر صفاءٍ وموسم نقاءٍ وهناءٍ، لياليه أنسٌ وسكينة، وأيامه خشوعٌ وطمأنينة، المؤمنون في المساجد بين ذاكرٍ وراكعٍ وساجد، يحمدون ويسبحون اللهَ القادر أن أنعم عليهم بشهرِ رمضان.
رمضان زمانٌ ليفكر المرء بنفسه فيراقبها ويحاسبها. رمضان فرصة لنعمل على جمع الكلمة أكثر، ونشدّ اليد باليد أكثر، ونرصّ الصفوف أكثر وأكثر.
رمضان يعلمنا أن نكون أكبر وأرفع من الانشغالِ بالشؤون الفردية الضيّقة الخاصة عن القضايا الكبرى والمصلحة العامة.
رمضان فرصة ذهبية لمزيد من التمسك بديننا الحنيف الذي حمل للناس النورَ والعدل والوسطية والاعتدال، الإسلام الذي ملأ الأرض خيرًا عندما تمسك به الأوائل عقيدةً حقة وأسلوبَ حياةٍ ومسلكًا أخلاقيًّا ونهجًا يجمع العقول والقلوب والسواعد.
أسأل الله في هذا الشهر المبارك أن يتقبّل منا صالح الأعمال ويجعلنا من عباده الـمفلحين، وأن يقيّض لأمّتنا أسبابَ الـمنعة والخلاص من الفتن.