الحمد للّه الذي جعل شهر رمضان أفضل شهور العام، ومنّ علينا بإدراك شهر الصيام والقيام، وفضّل أيامه على سائر الأيام، فزيّن نهاره بالصيام، وأضاء ليله بالقيام، والصلاة والسلام على أفضل من صلّى وصام، وأنقى من تهجّد وقام، وعلى آله وصحبه صلاة دائمة تتعاقب بتوالي الضياء والظلام. 

قال ابن رجب الحنبلي: «السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرّب إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من النفحات».

فالصائم الذي يترك ملذّات الدنيا وشهواتها ابتغاء مرضاة الله، وانتظارًا للجزاء الحسن يوم القيامة، يقيس بميزان الآخرة، حيث الربح والخسارة مختلفان عن موازين كثير من الناس في الدنيا، فالتجارة بالطاعة لا كساد فيها ولا هي تبور، إنها تجارة رابحة.

فرمضان شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.

ويروى أنه كان من دعائه ﷺ إذا دخل رجب «اللَّهمّ بارك لنا في رجب وشعبان وبلّغنا رمضان» أخرجه البزار.

فكم ممّن أمل أن يصوم هذا الشهر فصار قبله إلى القبر، وكم من مستقبل يومًا لا يستكمله، ومؤمل غدًا لا يدركه، فلو أبصرتم الأجل لتركتم الأمل وغروره.

قال بعض السلف الصالح: «طوبى لِمَن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره، فلما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في ترك شهواته، قدّم رضا مولاه على هواه، فصارت لذّته في ترك شهوته للّه لإيمانه باطّلاع الله عليه، وثوابه أعظم من لذّته في تناولها في الخلوة إيثارًا لرضا ربّه على هوى نفسه».

فالصائم يتقرّب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام والشراب والجماع، وهذه أعظم شهوات النفس، وفي تركها فوائد منها كسر النفس، فإنّ الشِبع والريّ ومباشرة النساء قد تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة، وقد يقسو معها القلب وتعميه وتحول بينه وبين الذِكر والفِكر. وخلوّ البطن من الطعام والشراب ينوّر القلب ويزيل قسوته، فيعرف الغني مقدار نعمة الله عليه بما أعطاه له مما لا يملكه كثير من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح، فإنه بامتناعه عن ذلك في وقت مخصوص وحصول المشقة له بذلك، يتذكر به مَنْ مُنع مِن ذلك فيشكر الله على نعمه عليه، ويدعوه هذا إلى مواساة أخيه المحتاج.

ومن فوائد الصيام أنه يضيّق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكُنُ بالصيام وساوسُ الشيطان وتنكسر ثورة الشهوة والغضب، ولهذا وصف النّبيّ ﷺ الصوم بأنه «وِجَاء» لقطعه عن شهوة النكاح، ثم إن التقرب إلى الله يحصل بترك ما حرّم الله في كل حال، من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.

والصائم يفرح بفطره لأن الله أَذِنَ له بذلك، فللصائم عند فطره دعوة وربما استُجيب دعاؤه. وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مُثابًا على ذلك، كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهار التقوي على الطاعة كان نومه عبادة. قالت حفصة بنت سيرين: قال أبو العالية: «الصائم في عبادة ما لم يغتب أحدًا وإن كان نائمًا على فراشه» وكانت حفصة تقول: «يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي». فالصائم في نهاره صابر وفي ليله طاعم شاكر.

وفي رمضان يستحب قراءة القرءان والإكثار من تلاوته خصوصًا في الليل، فإن في الليل تنقطع الشواغل، ويتواطأ القلب واللسان على التدبر، وشهر رمضان له خصوصية بالقرءان كما قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءانُسورة البقرة/185، وكان بعض السلف الصالح يختم القرءان في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وكان السلف يتلون القرءان في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه. وقال ابن عبد الحكيم: كان مالك إذا دخل رمضان أقبل على تلاوة القرءان من المصحف، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت.

فبشرى للمؤمنين فهذه أبواب الجنة الثمانية قد فُتحت ونسماتها على قلوب المؤمنين قد نفحت، وأبواب الجحيم كلها أغلقت، وكبار الشياطين قد صفّدت، فاعتبروا يا أولي الأبصار، واغتنموا رمضان شهر الخيرات والطاعات.