الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين.
إخوة الإيمان، إن صيام شهر رمضان عبادة عظيمة خصّها الله بخصائص، منها ما ورد في الحديث النّبويّ الشريف الذي رواه البخاري قال عليه الصلاة والسلام: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه».
وإن الصيام عبادة لا يطّلع على صدق صاحبها إلا الله وحده، فهذا الذي يترك طعامه وشرابه وشهوته ويخضع نفسه للطاعة فإنّ الله يُجزل له الأجر والثواب، فعن أبي هريرة في ما رواه مسلم أنّ رسول الله ﷺ قال: «كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعفُ، الحسنةُ عَشرُ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضِعْفٍ، قالَ اللهُ عزّ وجلّ: إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به، يدعُ شهوتَهُ وطعامَهُ من أجلي. للصائمِ فرحتانِ فرحةٌ عندَ فطرِهِ وفرحةٌ عندَ لقاءِ ربّه».
ورمضان لا يثبت أوّله إلا برؤية الهلال أو باستكمال شعبان ثلاثين يومًا وذلك لقوله ﷺ: «لا تَقَدَّمُوا الشهرَ –يعني رمضان- بيومٍ أو بيومين إلا أنْ يُوافق ذلكَ صومًا كان يصومُهُ أحدُكم، صوموا لرُؤيتِهِ وأفطروا لرُؤيته فإنْ غُمّ عليكم فعُدُّوا ثلاثينَ ثم أفطروا» رواه أحمد.
فلا يجوز اعتماد صيام رمضان على الحساب لأن النّبيّ ﷺ قال: «نحنُ أمّةٌ أميّةٌ لا نكتبُ ولا نحسبُ الشهرُ هكذا وهكذا» رواه البخاري، معناه إمّا تسعة وعشرون يومًا وإمّا ثلاثون يومًا ولا يعرف ذلك إلا بمراقبة الهلال.
وليُعلم أنّ رمضان فُرض صيامه في السنة الثانية للهجرة، وقد صام رسول الله ﷺ تسع سنوات وتوفي بعدها.
ووجوب صيام رمضان معلوم من الدين بالضرورة أي أنه ظاهر بين المسلمين يعلم ذلك العالم والجاهل، لذلك من أنكر فرضيته فهو كافر.
أما من أفطر بغير عذر وهو يعتقد وجوبه عليه فلا يكفر بل يكون عاصيًا فاسقًا من أهل الكبائر، ويستحق عذاب الله الشديد يوم القيامة.
أيها الأحبة الكرام، بما أن صيام شهر رمضان من الفرائض العظيمة وهو أحد أهمّ أمور الإسلام، يجب على الصائم أن يعرف أحكام الصيام الضرورية ليكون صيامه صحيحًا بإذن الله.
فالصيام له شرائط وجوب وفرائض ومفسدات فلا بد من معرفتها ومراعاة الشروط والفرائض وتجنب المفسدات.
شرائط الوجوب
فأمّا شرائط وجوب الصيام فإسلام وتكليف وقدرة على الصوم. فهو واجب على كلّ مسلم بالغ عاقل قادر على الصيام.
فلا يصح الصيام من الكافر، ولا يصح من حائض ولا نفساء، ولو صامتا حال وجودِ الدم فعليهما معصية ولا يصح منهما وعليهما القضاء. ولا يجب على الصبي أي غير البالغ ولكن يجب على وليّه أن يأمره بالصيام إن أكمل سبع سنين وكان قادرًا على الصيام، ويضربه على تركه إن بلغ عشر سنين وهو يطيقه، ولا يجب عليه القضاء إن أفطر لكن يأمره وليّه بالقضاء إن أطاق الصغير ذلك.
ولا يجب الصوم على المجنون ولا قضاء عليه، ولا يجب على المريض الذي يضرّه الصيام ولا على المسافر سفرًا طويلًا وعليهما القضاء.
ولو صام المريض والمسافر صحّ منهما ولكن إذا ضرّهما حَرُم عليهما.
فرائض الصيام
وأما فرائض الصيام فهما أمران: النيّة والإمساك.فأما النية فمحلها القلب ويجب تبييتها أي إيقاعها ليلًا قبل الفجر لكل يوم من رمضان.
ولو نوى بعد الغروب وقبل أن يتعاطى مفطرًا صومَ اليوم التالي عن رمضان صحّت هذه النية ولا يشترط أن يعيدها بعد الأكل، ويجب التعيين في النية أي تعيين أنها من رمضان، ولا بدّ من أن ينوي لكلّ يوم عند الإمام الشافعي، والأكمل أن يقول بقلبه في النية: «نويت صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة إيمانًا واحتسابًا للّه تعالى»، والاحتساب معناه طلب الأجر.
ويجوز في مذهب الإمام مالك أن ينوي عن الشهر كلّه ولكن لا بدّ من أن تكون هذه النية ليلة اليوم الأول من رمضان فيقول بقلبه: نويت صيام ثلاثين يومًا عن شهر رمضان هذه السنة. ويجب على الحائض والنفساء إذا انقطع الدم ليلة الصيام أن تنويا صيام اليوم التالي وإن لم تغتسلا.
وأما الإمساك فهو الإمساك عن الأكل والشرب وعن إدخال كل ما له حجم ولو صغيرًا إلى الرأس والبطن ونحوهما من منفذ مفتوح كالفم أو الأنف أو القبل أو الدبر من الفجر إلى المغرب. أما من أكل أو شرب ناسيًا ولو كثيرًا فلا يفسد صومه ولو كان صيام نفل فقد ورد في الحديث الذي رواه مسلم: «من نسي وهو صائمٌ فأكل أو شرب فليُتمّ صومه فإنما أطعمه الله وسقاه».
كما يجب الإمساك عن الجماع وإخراج المني بالاستمناء أو المباشرة لأن ذلك مفطر، أما خروجه بالنظر من غير مباشرة أو أثناء النوم في النهار فإنه غير مفطر.
كما يجب الإمساكُ عن الكفر والثبوتُ على الإسلام في رمضان وغيره لأن الكفر هو أكبر الذنوب وهو محبط لثواب الأعمال، فاستمرار إيمان الصائم شرط لصحة الصيام لأن الكفر مبطل للصيام.
ومما يفسد الصيام الأكلُ عمدًا ولو قدر سمسمة والشرب ولو قطرة ماء أو دواء. وكذلك القطرةُ في الأنف والحقنة في الدبر أو القبل.
أما الإبرة في الجلد أو الشريان فغير مفطرة.
ويفسد صيام من أغمي عليه كلَّ اليوم من الفجر إلى الغروب وكذلك من جُنّ ولو لحظة.
وكذلك إذا طرأ على المرأة حيض أو نفاس أثناء النهار ولو قبيل الغروب أفطرت.
إخوة الإيمان، إنّ تعلّم أحكام الصيام أمر مهم ليؤدي الإنسان هذه العبادة العظيمة على الوجه الصحيح فينال فضلها وعظيم ثوابها.
وشهر رمضان شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، من فطَّر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبتهِ من النار وكان له مثل أجرِه أي يُشبه أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شىء. ومعلوم أن ثواب الفرض أكبر من ثواب النفل فصوم رمضان فرض وتفطير الصائم نفل.
ثواب الصدقة في شهر رمضان
الصدقة في رمضان أفضل منها في غيره، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي فيه: «كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرءان، فلَرَسولُ الله ﷺ حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسَلة».
وكذلك لأن الصدقة في رمضان فيها إعانة على أداء فريضة الصوم. والصدقة في أوقات الحاجات أفضل منها في غيرها لقول الله تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)﴾ سورة البلد.
وعن مجاهد تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «لو أن رجلًا أنفق مثل جبل أُحُدٍ في طاعة الله تعالى لم يكن من النادمين».
وكان حماد بن أبي سليمان يفطّر كل يوم من رمضان خمسين إنسانًا، فإذا كانت ليلة الفطر كساهم ثوبًا ثوبًا.
وعن محمّد بن أبي حاتم أنه قال: «كان البخاريّ يتصدّق بالكثير، فيأخذ بيد صاحب الحاجة من أهل الحديث، فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين من غير أن يشعر به أحد، وكان لا يفارقه كيسه، ورأيته ناول رجلًا مرارًا صرَّة فيها ثلاثمائة درهم».
رمضان شهر التقوى
قال ابن رجب الحنبلي في «لطائف المعارف» يعظ الناس ليستكثروا من الخيرات قبل فوات شهر رمضان: «عباد الله شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب نفسه فيه للّه وانتصف؟ من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف؟ من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني فيها غرفًا من فوقها غرف؟ ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف».
صور رمضانية في العهود المملوكية
كان لرمضان في عصر المماليك نكهة مميزة واحتفالات خاصة عن سائر الشهور. وقد اعتنى بذلك ابن بطوطة الرحّالة الشهير، كما بيّن ذلك بعض المؤرخين كابن إياس والمقريزي وابن تغري بردي. ووصفوا حرص السلاطين على التوسع في الصدقات طوال شهر الصيام.
فقد ذكر المقريزي أنه في القرن السابع الهجري أيام السلطان بيبرس الجاشنكير بلغ عدد الفقراء الآكلين في مطابخ الأمير خمسة آلاف نفس وذلك في كل يوم من أيام رمضان، كما اعتاد أن يُعتق كل يوم مملوكًا في رمضان.
وكان السلطان برقوق يذبح كل يوم من أيام رمضان خمسًا وعشرين بقرة يتصدّق بلحومها على الفقراء. والحمد للّه ربّ العالمين.