الحمد للّه ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد الأمين وعلى كلّ رسول أرسله. 

قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) سورة القدر.

اعلم أن شهر رمضان فضّله اللهُ وشرّفه على سائر الشهور وكان فيه من المزايا ما ليس في غيره، فهو الشهر الذي فيه ليلة هي خيرٌ عند الله من ألف شهر ألا وهي ليلة القدر التي أنزل فيها القرءان الكريم، يقول الله عزّ وجلّ:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِسورة البقرة/185.

روى الإمام أحمد بن حنبل عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «أُنزلت صحفُ إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍ مضين من رمضان، والإنجيلُ لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأُنزل الفرقان لأربعٍ وعشرين خلت من رمضان».

هذا الحديث صحيح الإسناد ويؤخذ منه تفسير قول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)أي أنزلنا القرءان دفعة واحدة إلى بيت العزة في ليلة القدر في شهر رمضان، وكانت ليلة القدر في ذلك العام ليلة أربع وعشرين، وليلة القدر ليست خاصة بالعشر الأخير من رمضان، بل يحتمل أن تصادف أول ليلة منه أو ما بعد ذلك من ليالي رمضان فكل ليلة من ليالي رمضان يجوز أن تكون هي ليلة القدر.

وليُعلم كذلك أن ليلة القدر ليست خاصة بليلة السابع والعشرين من رمضان ولا بليلة التاسع والعشرين من رمضان، ولكن قال بعض العلماء: الغالب على ليلة القدر أن تكون ليلة سبع وعشرين أو ليلة تسع وعشرين.

من هنا يتبيّن معنى قوله ﷺ عن ليلة القدر: «فالتمسُوها في العَشْرِ الأوَاخِر» رواه البخاري، أي أنها في الغالب تكون في العشر الأواخر.

في بدء الأمر القرءان أنزل دفعة واحدة إلى مكان في السماء الدنيا يُقال له بيت العزّة، ثمَّ من هذا المكان صار جبريل ينزل بالقرءان على
رسول الله على حسب الأمر الإلــٰهي شيئًا فشيئًا، وتكامل نزوله على الرسول ﷺ في ظرف نحو ثلاث وعشرين سنة، لأن إنزاله دفعة إلى السماء الدنيا كان في أول سنة بعث فيها
رسول الله، ثم في صبيحة تلك الليلة أُنزل على الرسول خمس آيات منه فقط هي أول سورة العلق، ثم بعد ذلك أُنزل نجومًا، أي مفرّقًا على الرسول ﷺ.

ويُستحب للعبد في رمضان أن يتحرَّى ليلة القدر لحديث: «من قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تقدَّم من ذنبه» رواه البخاري.

وليلة القدر ليست مما خُصّت به أمّة محمّد، بل كانت أيام الأنبياء السابقين، فما يُروى أن أُمّة محمّد لما كانت أعمارهم قصيرة بالنسبة إلى من قبلهم من أمم الأنبياء عوّضهم الله تبارك وتعالى بليلة القدر غير صحيح، لأن ليلة القدر كانت قبل سيّدنا محمّد، وهي ليست من خصائص الأمّة المحمّدية.
ويُفهم من هذا الحديث أيضًا شرف شهر رمضان، حيث إنه أنزل فيه التوراة وأنزل فيه الإنجيل وأنزل فيه الزبور، إنما الحظ الذي اختصَّت به أمّة محمّد هو أنّ صيامهم في شهر رمضان المبارك، أما من قبلهم فلم يكن رمضان شهر صيامهم.

أخي المسلم، إن شهر رمضان موسم للطاعة والعبادة فاغتنمه قبل أن ينقضي ولعلَّك لا تدرك رمضان آخر بعده. إن شهر رمضان شهر تكثر فيه أعمال الخير مِن صيام بالنهار إلى قيام بالليل، ومن تفطير الصوّام والإنفاق في سبيل الله إلى الذكر وتلاوة القرءان والاقتداء بهدي السلف الصالح لا سيّما في العشر الأخير من هذا الشهر المبارك.

فعن الحسن رضي الله عنه أنه قال: «إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا وتخلّف آخرون فخابوا فالعجب من اللّاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون».

فماذا أدرك من فاته خير رمضان، وأي شىء أدرك من أدركه فيه الحرمان، قال بعض السلف: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلّغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبّله منهم، فهنيئًا لمن أطاع واتقى وفاز يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

فالحمد للّه ربّ العالمين على هذا التفضيل العظيم. والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.