تبدأ حياتنا بنفس وتنتهي بنفس، وما بين النفسين، محطات. حياتنا بالغالب هي عبارة عن محطات نعيشها سواء أحببناها أم لم نحبّها، نلتقي بأناس ونودع أناسًا، بعضهم يتركون أثرًا يبقى في قلبنا في ذلك المكان الذي نودع فيه الذكريات العزيزة، وبعضهم يترك في قلبنا أثرًا نتمنى لو نستطيع إزالته ولو بعملية جراحية. لكن كلامي اليوم هو عن المحطة الأخيرة، بالتأكيد هي الموت. كلنا سنموت يومًا ما ولا بد من أن نفارق الدنيا والناس الذين صادفناهم في حياتنا وآثارهم. لكن هل فكرنا يومًا بالآثار التي سنتركها عند الناس بعد موتنا؟.. نحن لا ندري ما هو الحديث الذي سيدور بين المعزّين وهم مصطفون في ذلك الصف «لياخدوا بالخاطر» كما يقال في عزائنا، لكن قد نستطيع قبل وفاتنا ترك أثر جميل في قلوب من حولنا علّهم يحفظون هذه الآثار مع الذكريات الجميلة في قلوبهم. ربما تجدون ما سأرويه اليوم تراجيديًّا أو مأساويًّا، لكنه حدث حقًّا.
كنت متوجهًا إلى عملي صباحًا، وكنت في تلك الفترة أمر بفترة كرب شديد، بسبب ضغط العمل والديون المتراكمة، كما هو الحال مع غالب شباب هذه الأيام، كنت أظن أنني المديون والمكروب الوحيد في هذه الدنيا، كنت أتوهّم أن لا أحد يمرّ الآن بما أمرّ به، مع يقيني الداخلي أن وضعي أفضل من أوضاع كثير من الناس، لكن الغارق في المشكلات لا يرى في الغالب إلا الناحية السوداء.
على أي حال وبالعودة إلى موضوعنا، كنت متوجهًا إلى عملي، مع زميل لي في العمل، وكنا على متن دراجة نارية، وعند مرورنا في الطريق التي نسلكها عادة، وجدنا زحمة سير خانقة، فقال لي: «الظاهر هناك شىء عرقل السير، لأنه من الغريب أن نصادف زحمة سير في هذا الوقت على هذا الطريق» فاعترضت على كلامه لأنني كنت أسلك هذه الطريق منذ زمن والزحمة هنا في الصباح هو شىء اعتيادي، فأنكر عليَّ لكن أكملنا طريقنا.
مع تقدمنا في المسير تراءى لنا من بعيد سيارة إسعاف، فقال لي: «ألم أقل لك إن هناك شيئًا غير اعتيادي في هذه الزحمة»، ومع اقترابنا من حادث السير رأينا المسعفين يغطون جثة رجل، والدماء منتشرة في المكان، ومن الواضح أن الحادث كان قويًّا، فالدراجة النارية الخاصة بالقتيل كانت مهشمة. مررنا ببطء أمام الناس المتجمهرين أمام موقع الحادث ومن ثم أكملنا طريقنا نحو الشركة التي نعمل بها. ومع وصولي إلى مكتبي انهالت الرسائل على هاتفي وكان أول ما قرأت على أحد المجموعات على تطبيق واتساب أن أحد أصدقائنا قد مات في حادث سير على نفس الطريق التي كنا نسلكها. لوهلة ظننت أنني أحلم أو أنها مجرد إشاعة كما يحدث أحيانًا في هذه المواقف، لكن تبيّن لنا بعد دقائق أن الخبر صحيح وأن الجثة التي رأيناها هي جثة صديقنا. ليس خبر موت صديقنا هو الخبر الذي هزّ كياني فقط، وإنما فكرة أنني كان يمكن أن أكون مكانه، وأن الحادث حصل قبل دقائق من مرورنا في ذلك الموقع بالتحديد كان يمكن أن أكون أنا على تلك الحمالة.
وهنا تبدأ وصيتي، وصيتي ليست خاصة لما بعد موتي فقط، إنما وصيتي بدأت منذ تلك اللحظة التي رأيت فيها الجثة. وصيتي لك يا نفسي أن تُبقي ذكر الموت في قلبي، لأن الموت قد يدركني في أي لحظة حتى في لحظات فرحي وصحتي، وصيتي لك يا نفسي أن تتركي ملذات الدنيا ومشاغلها، فأي منها لن يكون رفيقي في براد المستشفى، ولا على المغتسل ولا في قبري، وإنما عملي للآخرة هو ما سيرافقني إلى قبري. وصيتي لك يا نفسي أن تحاسبي نفسك كل يوم قبل أن تنامي فلربما لن أفتح عيني إلا في قبري وأنا أسمع «يا عبد الله ابن أمة الله». يا نفسي أعلم أن الدنيا ملذاتها كثيرة وأنها تشدّ الواحد منا إليها، لكن هذا لا يعني أن ننجر وراءها.
أما وصيتي لأحبابي وأهلي وأصدقائي، فأنا لا أريد منكم بوستات و«status» مؤثرة، ولا أريد منكم نبش حسابي الخاص على الفايسبوك بحثًا عن صور تضعونها على حوائطكم الفايسبوكية فهذا كله لن ينفعني بعد خروج الروح من جسدي ما أريده منكم ووصيتي لكم أن تذكروني بدعوة صادقة وأن تستغفروا الله لي وأن تقرؤوا ما تيسّر لكم من القرءان الكريم وأن تهدوني ثوابه، هذه وصيتي لكم أرجو أن تعملوا بها، فلعل هذا المقال ينشر وأنا تحت التراب. والسلام.