رحلتِ.. رحلتِ، وما بعد رحيلك غربة في الأوطان.
لا أتحدث عن غريب في بلاد غريبة يشكو غربته في شوارع لا يعرفها وبين وجوه لا يألفها وأطعمة وروائح لا يرغبها… بل عمّن تغرّب وسط منزله وحارته ومدينته وبين أهله وناسه… فهل له من أنيس؟
الأم وطن… وفقدانها غربة.
هذا مقعدها على مائدة الإفطار قد خلا… فأنّى يملؤه كل من جلس فيه؟
حساء العدس على النار يُعَدُّ كما علَّمتِ بالحذافير، ولكن ما لي لا أشم رائحته المحببة ولا أتذوق طعم طفولتي فيه؟
لن يكون حساء العدس بعد اليوم كما كان… هو لا ينقصه سواها… فكيف نضيف نكهة حبّها إلى طعامنا وهي مطيّبات لا تأتي معلّبة؟
«زنود الست» أشتريها اليوم بغصّة، مع أنني أحبّها ولطالما انتظرت دوري في صفوف طويلة لأشتريها… كيف لا أنتظر دون ملل وأنا أترقّب بهديتي الصغيرة فرحة عينيها التي تحليني أضعاف أضعاف ما في تلك الحلوى من حلاوة..
– «كلي يا حبيبتي»
– «كلي أنت يا أمي»
خلت مائدة المنزل من أفراد الأسرة الذين حرصت على دعوتهم في كل سنة، أسرة تلو الأخرى، وافتقدت الضحكات وليالي السمر والتناصح في ما فيه خير. أصبحنا نلتقي في الأعياد والأفراح والعزاء فقط… ما أجملها من عادة بدأتِ بها… وليتها لم تقف بعدك… ولكن من مثلك؟
ثوب صلاتك الذي كنت تلبسينه في تراويحك عندي… ولا أذكر ليلة من رمضانك الأخير إلا وقد رأيتك تؤدين صلاتك فيه… فأدعو لك بخير وبقَبول عند الله… وأتمنى أن أصبح يومًا في همّتك.
بائع الزنبق المعهود احتار لرؤيتي يوم العيد… فهو يعلم برحيلك، ولكنه يعلم أيضًا أن باقة الزنبق تحضر دائمًا لك في كل عيد… ماذا عساه يقول لي؟
اختصرت عليه الحديث وأخبرته بأني ذاهبة لزيارتك… وأودّ زرع بعض الزهور على قبرك… عمل في صمت… ومنذ رحلتِ ما اشتريت زنبقة لغيرك.
يأتي عيد ويذهب آخر، وذكراك في البال والقلب والحشا، لا تفارق من أَحبَّك. في اجتماعاتنا نذكرك وأيام الفرح معك، وأحيانًا نترك ذكرك عمدًا كي لا تكبر في القلب غصة.
ليس عندي لك اليوم هدية أو وردة، ولا أستطيع الذهاب معك لشراء ثياب العيد… ولن أختار لك بعد اليوم فاكهة أو حلوى تحبّينها… ليس عندي سوى الدعاء لك عساك تفرحين بهذه الهدية… وصلة رحمك وزيارة أصدقائك بعدك بِرًّا بك… فيا من على مائدته اكتملت كل المقاعد… احرصوا على البرّ والإحسان لجالسيها قبل أن يكون يوم تتحسّرون فيه على فراغها ولم تحسنوا بعد…