أبو محمود رجل طيب، متوسط العمر، حميد السيرة، لديه أسرة كبيرة يعيلها. فهو يعمل بجد وصمت ليؤمّن لهم حياة كريمة، وكان من صفاته الشرف والأمانة، فهو لا يُدخل جيبه إلّا المال الحلال، هو صافٍ كصفاء الماء العذب، وكان كل من يعرفه ويصاحبه يحبّه ويحترمه لنزاهته، وكانت علاقته بجيرانه في العمل جيدة، لأنه «بحاله» لا يؤذي أحدًا ولا يتعدّى على أحد وحدث مرة أن أتى إليه شخص يدعونه بـ«القبضاي»، فهو مدرّب في نادٍ للرياضة، عضلاته مفتولة ومنظره يُشعر بالقوة والصلابة، وكان يعرف أبا محمود معرفة جيدة فسلّم عليه سلامًا حارًّا واشترى من عنده بضاعة وقال له: «هل تمانع أن أؤجل الدفع ليومين أو ثلاثة؟» فقال أبو محمود: «ولا يهمك يا رجل… أنتظر كام يوم» ذهب «القبضاي»، ثم مضت الأيام التي حدّدها له لكنه لم يعد ليعطي أبا محمود ثمن البضاعة، وكان لهذا الرجل الطيب جار يسكن في المحلة يملك محلًّا قريبًا من متجر أبي محمود لكنّه كان يُضمر الغيرة والحسد لجاره ويُظهر له العكس، وكان هذا يعرف القبضاي معرفة جيدة فسأله مرة أبو محمود: «هل ترى صديقك القبضاي يا جار؟» فقال الجار: «نعم أراه هل تريد منه شيئًا؟» فلم يجبه أبو محمود وقال في نفسه: «لعله معسر أو لعل ظروفه صعبة سأنتظر بضعة أيام»، لكنّ أيامًا مضت تلتها شهور ولم يأت الرجل ليدفع ما عليه. فعاد أبو محمود يسأل جاره عنه، فأصرّ الجار أن يعرف ما القصة… فأخبره بها وقال: «أنا يا أخي في ضائقة مالية، وأحاول أن أجمع مالي من هنا وهناك، كي أشتري بضاعة فليس معي «السيولة» أرجوك يا جار إذا رأيته قل له أن يأتي ليعطيني المال، فأنا بحاجة له…» هذا ما قاله أبو محمود فقط، لكن الجار الحسود الذي كان يغار من جاره الطيّب أوصل رسالة جاره على عكس ما صيغت، فلما التقى بالقبضاي همس في أذنهِ كلامًا شنيعًا فقال: «أبو محمود مستاءٌ منك كثيرًا لأنك لم تدفع ثمن البضاعة، وقد شهّر بك بين الناس، وقال إنك تأكل حقوق الناس وإنك استغلالي، صاحبتَه لتأخذ من عنده ما تريد ومن ثم «شمّعت الخيط» ولم تعد لتعطيه المال، والجميع في المحلة أخذ عنك فكرة سيئة، لقد شوّه سمعتك يا رجل هذا الذي كنّا نظنّه طيبًا، قال أيضًا بأنه لن يتعامل معك بعد الآن».
وعلى رأي بعض أهل الأمثال الذين يقولون: «مين غاظك؟ قال: الذي بلّغك» فاستشاط القبضاي غضبًا، وغلا الدم في قلبه بعد أن صبَّ الجار في أذنه كل تلك الافتراءات، وأوقع نفسه في معصية البهتان فنقل عن لسان أبي محمود شيئًا لم يقلهُ، وأثارَ غضب القبضاي عليه، كان همّه أن يُبعدَ جاره الطيّب عن المحلة حتى يخلو له الجو ويصبح متجره وحيدًا في المحلة، ويبعد عنها منافسه في العمل. لم ينتظر «القبضاي» ولا دقيقة بل هرع في الحال متوجهًا لعند أبي محمود. ولما وصل وقف أمام الملأ يصرخ ويتوعد قائلًا: «أنا يا أبا محمود لا أدفع حقوق الناس أيها الكاذب، تقول عني كلامًا شنيعًا أيها الخسيس»، تفاجأ الرجل الطيب بـ«القبضاي»، وأحس عندها بأنه أوغر الصدر ضده، فحاول تهدئته، وحاول إفهامه الحقيقة. فلم يعطه ذاك فرصة للدفاع عن نفسه فهجم عليه يريد ضربه، فتدخل الجار الحسود ليبعدهما عن بعضهما، فهوت يد القبضاي على يد الجار الحسود كالصاعقة، دُهش أبو محمود من ردة فعل الرجل وقال للجار: «ماذا قلت له يا رجل ماذا أخبرته؟» وكان ذاك يتلوّى من ألم الضربة القوية… صاح أبو محمود: «أتريد ضربي وأنا بعمر أبيك، هداك الله…» لكن الغضب كان ما زال يعمي عيني «القبضاي»، فرفع رجله وأراد ضرب أبي محمود بها وكان الجار الحسود ما زال يحاول دفعه إلى الوراء فجاءت الضربة في بطنه، وفي الحال أصيب بفتق كبير فأمسك بطنه وأخذ يئنّ من الألم. فُضّ النزاع يومها، وأوضح أبو محمود القصة كما جرت للناس وعرف الجميع من هو المغرض «النمّام» الذي نال جزاءه جرَّاء فعله الشنيع.
مرت سنة بعد هذه الحادثة، والقبضاي لم يعد يُرى في المحلة. وفي أحد الأيام بينما كان أبو محمود منهمكًا في عمله وإذ بشخصٍ من ورائه يسلّم عليه، فالتفت ليتفاجأ بالقبضاي الذي كان يجلس على كرسي «العجزة» فردّ أبو محمود السلام والدهشة تطغى على وجهه لهول ما رأى، لقد فقد الرجل رجليه الاثنتين. نظر القبضاي إلى أبي محمود، وقال: «لقد تأخرت عليك يا صديقي، كان عليَّ أن ألتقيك من سنة. لكن الظروف التي مررت بها حالت دون ذلك، فالحوادث توالت عليّ وساءت أحوالي وفقدت رجليَّ يا صديقي، لقد عرفت الحقيقة وعرفت بأنك بريء مما نُسب إليك لكن الغضب أعماني يومها وكان عليَّ أن أتبيّن الصواب ولا أتسرع، ذاك الجار أوقع بيننا، لقد ظلمتك وأردت ضربك وأنت الطيب الشريف. فقُطعت رجلي التي كنت سأضربك بها ثم قُطعت الثانية، ثم أمسك بيديه فقبلهما وقال: سامحني يا أخي سامحني أرجوك…» وفاضت دموعه حزنًا وندمًا وحسرة.
فتأثّر أبو محمود ولم يتمالك نفسه فبكى رأفة وشفقة على الرجل وقال له وهو يمسك بيديه: «الله يسامحك يا أخي». وتركه «القبضاي» وذهب وحرقة الندم تقطع أوصاله، لقد جنى ثمرة عمله، ونال عقابه بعد ظلمه للرجل المسكين كما نال ذاك الجار الحسود جزاءه نتيجة ظلمه لأبي محمود فكانت تلك عاقبة الظلم. اللّهم أبعدنا عن الظلم وأحسن ختامنا…