الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

شكر الله تبارك وتعالى على نعمه يحصل بأنواع من العبادات ومنها سجدة تسمى سجدة الشكر، تُسَنّ عند تجدّد نعمة أو اندفاع نِقمة أو رؤية مبتلى، وهي سجدة واحدة تشبه سجدة التلاوة، لكنها تُشرع خارج الصلاة لا فيها، فيُسنُ للمسلم عند اندفاع النقم ونزولِ النّ‍ِعَم أن يَخِرَّ ساجدًا متذلّلًا شاكرًا لربّه، معترفًا بفضل الله تعالى على عباده وعظيم كرمه، وإنما قُيّدت سُنّيّة سجدة الشكر بالنّ‍ِعَم المتجددة لا النّعَم المستمرة كالعافية والإسلام لأنَّ نعمَ الله على عباده كثيرة لا نحصيها، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ سورة النحل/18. فلو أراد العبد أن يسجدَ للّه على كلّ نِعمَةٍ لاستغرق ذلك عمره كلّه فنِعَمُ الله تتوالى علينا ليل نهار وفي كل لمحة ولحظة وحين. إنما لو فَتح الله على العبد برزق وفير مثلًا، أو بُشّر بمولودٍ، أو بُشّرَ بعودةِ غائبٍ وما أشبه ذلك من النعم المفاجئة المُفرحة سواء كانت النعمة نازلة به أم بغيره كولد أم أخ ونحوه، يُسنُّ له أن يسجد شاكرًا للّه على ما أنعم وتكرّم به من العطايا، وكذا لو كانت النعمة حصلت لعموم المسلمين كنزول المطر بعد القحط والجفاف، وكالنصر على الأعداء ففي كل هذا ومثله يُسن له سجدة شكر للّه تعالى. وتسن أيضًا عند اندفاع النقم كنجاة من مصيبة أو هدم أو غرقٍ، وكذا من به مرض عُضال أذهبه الله عنه وشفاه أو عن غيره، ويسجد للشكر لاندفاع النقم أو بلوغ المؤمن خبر يفرحه كزوال بلاءٍ عن المسلمين أو موت ظالم، أو هلاك طاغية فاجر، وفي حديث أبي داود عن أبي بَكرَةَ عن رسول الله ﷺ أنه كان إذا جاءهُ أمر سرور أو بُشّرَ به خَرَّ ساجدًا شاكرًا للّه، وفيه أيضًا أنه أتاه بشيرٌ يبشّره بنصر جُندٍ له على عدوّهم فقام عليه الصلاة والسلام وخرَّ ساجدًا شاكرًا. وفي الحديث عن
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه قال: خرج رسول الله ﷺ فاتّبعته حتى دخل نخلًا فسجد فأطال السجود، حتى خِفتُ أو خشيتُ أن يكون الله قد توفاه أو قبضه قال: فجئتُ أنظر، فرفع رأسه فقال: «ما شأنك»؟ قال: فذكرت ذلك له فقال: «إنَّ جبريل عليه السلام أتاني فبشّرني فقال: إنَّ الله عزّ وجلّ يقول: مَن صلّى عليك صلّيتُ عليه، ومن سلَّم عليك سلّمتُ عليه، فسجدتُ للّه عزّ وجلّ شكرًا» رواه أحمد، ومعنى «صلّيتُ عليه» أي أعطيتُه رِفعة وثوابًا، وذكر البيهقي بإسناده أن عليًّا
رضي الله عنه لما كتب إلى النّبيّ ﷺ بإسلام همدان وهي قبيلة في اليمن أسلموا على يد عليّ فلما بلغ خبر إسلامهم النّبيّ ﷺ، خَرَّ ساجدًا ثم رفع رأسه فقال: «السَّلامُ على هَمدان، السَّلام على همدان». وكذا إذا رأى مبتليًا ببليّة أو بمعصية فيستحب له أن يسجد شكرًا للّه تعالى على أنه لم يُصب بذلك وأن الله عافاه. ثم إذا سجد لنعمة أصابته أو بليّة اندفعت عنه ولا تعلّق لها بالغير أظهر السجود. وإن كان لبلاء في غيره نظر إن لم يكن ذلك الغير معذورًا فيه كالفاسق فيظهر السجود بين يديه تعييرًا له فربما ينزجر ويتوب، وإن كان معذورًا كمن به عاهة مزمنة ونحوها فيُخفي كيلا يتأذّى، ويقول: «الحمد للّه الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضّلني على كثير ممّن خلق تفضيلًا»، وعلى هذا دأبَ المسلمون بعد رسول الله ﷺ يسجدون سجود الشكر للّه فالخليفة الراشد سيّدنا أبو بكر الصديق
رضي الله عنه سجد حين جاءه خبر قتل مُسيلمة الكذّاب الذي كان ادّعى النّبوّة، وكذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه سجدَ شكرًا للّه تعالى حين وجدَ ذا الثُّدية -وهو أحد زعماء الخوارج- في الذين قتلهم في النهروان وهي معركة قام بها الإمام علي رضي الله عنه، وسَجَدَ الصحابي كعب بن مالك رضي الله عنه لما جاءتهُ البشرى بأنَّ الله قَبِلَ توبته وغفر له خرَّ ساجدًا للّه شاكرًا، وتوارى الحسن البصري عن الحجّاج سبع سنين فلما بلغه موته قال: اللّهمَّ قد أمتّه فأمت سنّته، وسجد شكرًا للّه وقرأ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)﴾ سورة إبراهيم.