الـحـمد للّه ربّ العالـمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين سيّدنا محمّد وعلى جميع إخوانه من النّبيّين والمرسلين وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين. 

إن السجود تعبُّد وتقرّب وطاعة للّه، شرف المؤمن وموطن دعائه ومناجاته للّه ربّ العالمين، وفيه صورة العبادة والتذلل وشدة الانكسار والمسكنة والافتقار للّه تعالى، والله تعالى مدح أنبياءه ورسله والصالحين بالسجود فقال الله عزّ وجلّ: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) سورة مريم، وفي القرءان العظيم بيان حال العباد الصالحين، فليلهم فيه الصلاة والسجود وفيه التضرع للّه تعالى، قال الله تعالى في وصفهم:
﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) سورة الفرقان، وفي صفة أصحاب النّبيّ ﷺ قال الله تعالى: ﴿محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ سورة الفتح/29، قال النسفيّ في تفسيره: أي من التأثير الذي يؤثره السجود، وعن عطاء: استنارت وجوههم من طول ما صلّوا بالليل، وقد رُوي عن النّبيّ ﷺ: «مَن كثُرتْ صلاتُه بالليلِ حَسُنَ وجهُه بالنّهار» رواه ابن ماجه، فالساجدون للّه يظهر في وجوههم بهاء الخشوع من أثر صلاتهم. وللّه عزّ وجلّ يسجد مَن في السماوات أي الملائكة الكرام سكّان السماوات فهم يسجدون للّه تعالى في السماوات ومنهم مَن يسجد عند العرش العظيم، لأنَّ العرش مكانٌ معظّم مجيد عنده هناك الملائكة تعبد الله عزّ وجلّ، وليس مكانًا للّه، تعالى الله عزّ وجلّ عن أن يحويه مكان أو يشبه الخلق فالملائكة يسجدون للّه سجود عبادة عند العرش، قال الله تعالى: ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)سورة فصّلت، ففي الآية بيان أن للّه عبادًا يسبّحون بالليل والنهار ولا يملّون وهم الملائكة الكرام، ومعنى ﴿عِندَ رَبِّكَ أي في المكان المشرّف عند الله وهو السماوات.

قال النسفي في تفسير ﴿عِندَ رَبِّكَ﴾: عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة، وممّا يدلّ على أن الملائكة يسجدون للّه في السماوات قول النّبيّ ﷺ: «إِنّي أرى مَا لَا تَرَوْنَ، وأسمعُ ما لا تسمعونَ أَطَّتِ السماءُ، وحُقَّ لها أن تَئِطَّ ما فيها مَوْضِعُ أربعِ أصابعَ إلّا ومَلَكٌ واضِعٌ جبهتَهُ ساجدًا لِلَّهِ، والله لو تعلمونَ ما أعلمُ لَضَحِكْتُمْ قليلًا وَلَبَكَيْتُمْ كثيرًا» هذا الحديث رواه الترمذي، وفيه دليل على أنه يستحيل على الله أن يكون ساكنَ السماء وإلا لكانَ مساويًا للملائكةِ مزاحمًا لهم. والمؤمنون المخلصون في سجودهم للّه في الدنيا يكافَؤون بالسجود للّه في مواقف يوم القيامة، والمنافقون الذين كانوا في الدنيا يُبطنون الكفر ويظهرون غيره لا يستطيعون السجود في ذلك الموقف، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42)سورة القلم، أي يُكشَفُ يوم القيامة عن شدةٍ شديدةٍ وَهولٍ شديدٍ أي عن أمرٍ شديدٍ بالغ في الصُّعوبةِ، أما الـمُشبّهَةُ فيقولون ﴿عَن سَاقٍ أي الله تعالى يكشفُ عن ساقِهِ الجارحة بزعمهم. تنزّه الله عن صفات الخلق. وقولُهُ تعالى:
﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ هذا السجود سجودُ امتحانٍ حتى يتميّز المؤمنون الذين كانوا يسجدونَ للّه تعالى عن نيةٍ وإخلاصٍ من المنافقين الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام ولم يكونوا مسلمينَ إنما كانوا يسجدونَ في الدنيا مع المسلمينَ أحيانًا، أي حتى ينكشفَ أمرُ هؤلاءِ وينفضحوا، يأمُرُ اللهُ الناسَ بالسجودِ، فالمؤمنونَ يسجدونَ وأما المنافقونَ فلا يستطيعونَ لأن ظُهورَهُم لا تُطاوِعُهُم على السُّجودِ فينفضحونَ في ذلك الموقف المشهود في يوم القيامة. وشرف السجود للّه تعالى وعظمته يتجلّى في قرب العبد من ربّه قربًا معنويًّا لا قرب مسافة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وفي قوله تعالى:
﴿كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)  سورة العلق، إشارة واضحة أن السجود فيه القرب المعنوي على معنى التقرب إلى الله بالعبادة والصلاة والسجود، وعن أبي هريرة  رضي الله عنه أنه قال:
قال رسول الله ﷺ: «أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربّه وهو ساجدٌ فأكثروا الدعاء» رواه مسلم.

معناه أقرب ما يكون من رحمة ربّه وفضله، وفيه الحث على الدعاء في السجود تقرّبًا إلى الله تعالى. وجاء في عدة أحاديث بيان مظنّة قبول الدعاء في مواضع السجود كقوله ﷺ في الحديث: «وأمّا السجودُ فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يُستجابَ لكم» رواه مسلم، ومعنى «قَمِنٌ» أي جدير. والسجود للّه عزّ وجلّ سبب من أسباب رفع الدرجات وتكفير السيئات فقد سُئلَ النبيّ ﷺ: أي الأعمال أحبّ إلى الله؟ فقال: «عليكَ بكثرةِ السجود للّه فإنّك لا تسجدُ للّه سجدةً إلا رفعكَ اللهُ بها درجةً وحطَّ عنك بها خطيئة» رواه مسلم، وفي هذا الحديث الحث علـى كثرة السجود والترغيب، والمراد به السجود في الصلاة، ولأن السجود غاية التواضع والعبودية للّه تعالى، وفي الآخرة يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ فيُخرج الله عزّ وجلّ من النار بعد ذلك أصحاب السجود في الدنيا من المؤمنين العصاة، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة الطويل وفيه: «حتى إذا أرادَ اللهُ رحمةَ من أرادَ من أهلِ النار أمرَ اللهُ الملائكةَ أن يُخرجوا من كان يعبُدُ اللهَ فيُخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرّمَ الله على النار أن تأكُلَ أثرَ السجودِ». وإن كان المراد بالسجود الصلاة فلا يخفى أن السجود ركن من أركان الصلاة، وفي السجود معان خفية وأسرار دقيقة ينبغي استشعارها واستحضارها، حتى يكون لهذه العبادة أثرها في تزكية نفس العبد المؤمن وصلاح قلبه. منها أن يستشعر الساجد للّه أنه انحنى طاعة وتذلّلًا لخالقه مسبّحًا بكلمات التنزيه والتعظيم للّه سائلًا ربّه يدعوه ويرجوه واضعًا أشرف موضع من وجهه على الأرض مداس الأقدام متيقّنًا أن الله تبارك وتعالى يسمع دعاءه ويعلم بحاله، ويسمع شكواه وافتقاره، وعلى العبد الساجد أن يذكر أن هذه الجوارح ينبغي أن لا تكون إلا طائعة للّه تبارك وتعالى الذي خلقها وأوجدها بقدرته، وفي مقام السجود أيضًا ينبغي أن يغيب الساجد عن صوارف الدنيا وملهياتها وفتنتها فيزداد خشوعه، وفي هذا الاستشعار لذة العبودية للّه تعالى، وهذا حال حَسَن يحبّه الله، واعلم أن في السجود للّه تبارك وتعالى عزّك وشرفك أيها المسلم، وسعادتك وهناءك، فربّك الله السميع البصير يرى عبده حين يسجد، فأكثر من السجود وسابق إليه، وجاهد النفس عليه خاشعًا مخلصًا منكسرًا متذللًا للّه، فالسجود للّه عبادة وتذلل للّه العزيز القهّار، وخضوع واعتراف وطاعة وامتثال، وهو أيضًا رفعة وانشراح واطمئنان وفيه كشف كربات، أخي المسلم اسجد للّه مسبّحًا، مهلّلًا داعيًا سائلًا راجيًا رحمته تعالى، اسجد للشكر والتوبة والتلاوة والسهو وللصلاة امتثالًا ورغبةً ورهبةً فربّك الكريم قد أسبغ عليك نِعَمه العظيمة ويسّر لك كل خير تنعم به، فسبحانه هو الإله الكريم العظيم الذي يستحق العبادة والتذلّل له عزّ وجلّ، فألسنتنا سبَّحت له تعظيمًا وتبجيلًا، وجباهنا ما سجدت تعبُّدًا لأحدٍ سواه، هو يرانا، ولا نعبد إلا إياه، ولا نتذلل نهاية التذلل إلا للّه الواحد القهّار. اللّهمَّ تقبَّل سجودنا وارزقنا سجودًا يرفعنا عندك درجات وتمحو به سيئاتنا يا مجيب الدعوات…