آل النّبيّ ﷺ وأزواجه أمهات المؤمنين ونسله نالوا الشرف والسيادة والرفعة بين المسلمين، كيف لا وفيهم من بركة النّبيّ ﷺ بقية، ومن نوره قَبَسٌ، ومن طيبه عبق، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وعلى صحابته وسلّم تسليمًا كثيرًا. ولأجل شرف النّبيّ ﷺ شُرّفَ آله الكرام، وأهل بيته الشرفاء، وتكريمًا للنّبيّ ﷺ كُرّمت ذرّيته الطاهرة، ولمحبة النّبيّ ﷺ نال آل بيته الكرام الحبّ في قلوب المؤمنين، وأكرمهم الله تعالى أن جعلَ فيهم الكثير من العلماء والأولياء والصالحين الذينَ ذاعَ صيتهم في البلاد فانتفع بهم العباد بل وفُتحت على أيديهم بلاد، ومن هؤلاء المشاهير الإمام السيّد الورع الثقة المأمون العالي القدر الرفيع النسب سيّدنا زين العابدين علي ابن الإمام الحسين ابن الخليفة الراشد عليّ رضي الله عنهم، لُقّبَ بالسَّجَّاد لكثرة سجوده وصلاته وورعه وحُسن عبادته فقد كان سيّد أهل البيت في زمانه وله مناقب كثيرة وصفات جليلة، كان يطيل السجود في صلاة النفل، وقيل إنه كان يسجد في اليوم ألف سجدة يدخل بستانًا فيه خمسمائة نخلة فيسجد مصليًا خلف كل شجرة ركعتين، وكان يستقي الماء لطهوره قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم توضأ فأخذ في صلاته، وكان يقضي ما فاته من النوافل في النهار بالليل ثم يقول: يا بُنَي ليس هذا مما عليكم بواجب ولكن لمن عَوَّد نفسه منكم عادة من الخير أن يدوم عليها. وكان لا يدع صلاة الليل في الحَضَر والسفر.  وكان أثر السجود وبهاء نور العبادة ظاهرًا في وجهه فلُقّب بالسجّاد رضي الله عنه، وكان من أجمل الناس خِلْقَة ومن أحسن الناس خُلُقًا ومن أسخى الناس، له مهابة بين الناس أكثر من الملوك لحُسن حاله وشدة تقواه وشدة شبهه بجده النّبيّ ﷺ فالإمام السجاد من سادات التابعين، وكان يُكنّى أبا الحسين وقيل أبا محمّد. وليس للحسين رضي الله عنه عقِب إلا من ولد زين العابدين، وأمه كانت أَمَةً مملوكةً اسمها غزالة كما ذكر ابن سعد في «الطبقات»، وورد في كتاب «وفيات الأعيان» لابن خلكان أن أمه سُلافة بنت يَزْدَجرْد آخر ملوك فارس.

كلام الإمام السجّاد في تنزيه الله عن مشابهةِ المخلوقات

كان الإمام زين العابدين السجّاد على عقيدة النبيّ وأصحابه وأهل بيته من توحيد الله وتنزيهه عن المكان والحيّزِ والحَد أي الكمية وعن اللون، وكان لا يألو جهدًا في تعليم الناس العقيدة الإسلامية حتى عند الدعاء، روى الحافظ محمّد مرتضى الزبيدي الحسيني في كتاب «إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين» بالإسناد المتصل المتسلسل بطريق أهل البيت أنَّ الإمام زين العابدين رضي الله عنه قال في أثناء دعائه يوم عرفة: «سبحانك لا إله إلا أنتَ لا يحويكَ مكان». وقال أيضًا: «أنت اللهُ الذي لا تُحَدُّ ولا تُحَسُّ ولا تُجَسُّ». وهذا الكلام من الإمام السجّاد من جواهر التوحيد، ومعناه أنَّ الله تعالى لا يجوز أن يوصف بالجسم الذي يُجس ويُحس ولا بأي صفة من صفات الخلق وفي كلامه إثبات أن اعتقاد العِترة النّبوية الطاهرة الذي نقلوه عن جدهم سيّدنا رسول الله ﷺ تنزيه الله تعالى عن المكان، لأنَّ المكان فراغ تملؤهُ الأجسام تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، قال الله تعالى:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) سورة الشورى.

وكان الإمام السجّاد كثير المواعظ ومنها قوله: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدًا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شَكّ في الله وهو يَرى خَلْقَه، وعجبت كل العَجَب لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وهو يعلم دار البقاء.

والإمام زين العابدين هو من سادات التابعين، قال الزهري: لم أرَ هاشميًّا أفضل منه وما رأيت أحدًا أفْقَه منه وكان شديد الورع وكثير العبادة، ورد أنه وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد، فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله، النار! فما رفع رأسه حتى انطفأت، فقيل له في ذلك، فقال: ألـهـتني عنها النار الأخرى. وجاءه رجل يومًا وهو مع أصحابه في المسجد فما ترك شيئًا إلا قاله له وزين العابدين ساكت، فانصرف الرجل، فلما كان الليل جاء إلى باب الرجل فقال له: يا أخي إن كنت صادقًا في ما قلت لي فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك. وولّى، فاتّبعه الرجل فالتزمه من خلفه وبكى حتى أشفق زين العابدين عليه، ثم قال: لا جَرَم لا عُدتُ في أمرٍ تكره، فقال له: وأنت في حلّ مما قلت لي. وكان رضي الله عنه سخيًّا كريمًا جوّادًا.

وورد أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المـساكين في الظلمة، ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الربّ. روى ابن الجوزي في «صفة الصفوة» عن محمّد ابن إسحاق أنه قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتَون بالليل. وعن عمرو بن ثابت أنه قال: لما مات علي بن الحسين، وجدوا بظهره أثرًا مما كان ينقل الجُرُبَ -الأوعية من الجلد- بالليل إلى منازل الأرامل، وقيل إنه لما مات علي، وجدوه يعول مائة بيت. وقال بعضهم: ما فقدنا صدقة السرّ حتى توفي علي. وكان إذا أتاه السائل رحّب به وقال: مرحبًا بمن يحمل زادي إلى الآخرة. وروى رجل من ولد عمار بن ياسر فقال: كان عند علي بن الحسين قوم فاستعجل خادمًا له بشواء كان له في التنور، فأقبل به الخادم مسرعًا وسقط السَّفود -الحديدة التي يُشوى بها اللحم- من يده على ولد لعلي بن الحسين فأصاب رأسه فقتله، فقال: إن الله يقول:
﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَفقال: قد كظمت غيظي. قال: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، فقال: عفا الله عنك، فقال: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)سورة آل عمران. فقال زين العابدين: أنت حرّ لوجه الله تعالى. وعن عمرو بن دينار أنه قال: دخل علي بن الحسين على محمّد بن أسامة بن زيد في مرضه، فجعل محمّد يبكي، فقال: ما شأنك؟ قال: علي دَيْن.  قال: وكم هو؟ قال: بضعة عشر ألف دينار. قال: فهي عليَّ. وكان رضي الله عنه متواضعًا، وإذا مشى لا تجاوز يده فخذه ولا يتبختر في مشيه، وكان يجالس أسلم مولى عمر، فقيل له: تدع قريشًا، وتجالس عبد بني عدي! فقال: إنما يجلس الرجل حيث ينتفع.

وكان زين العابدين كثير البرّ بأمه، حتى إنه كان لا يأكل معها في صَحْفة مخافة أن تسبق يده إلى ما سبقت إليه عينها. ومرة أهانه شخص في وجهه فسكت، ما ردّ عليه، ما انتقم منه، فذاك لما وجده لا يرد عليه قال له: «إيّاك أعني» فقال الإمام السجّاد: «وعنكَ أُغضي»، معناه أنا عمدًا أسكت عنك لا أُعاملك بالمثل، فذلك الرجل تراجع في نفسه وندِمَ على ما فعل قال في نفسه أنا عاملته بالشتم والإهانة وهو ما قابلني بالمثل بل أغضى عني فوبَّخ نفسه، لامَ نفسه.

وقد قيل في فضائل آل البيت الكثير من الشعر. ومما يروى أنَّ هشام بن عبد الملك حجّ قبل أن يلي الخلافة، فاجتهد أن يستلم الحَجر فلم يتمكن، وجاء زين العابدين علي بن الحسين فوقف له الناس وتنحَّوا حتى استلم الحجر، فقال الناس لهشام: مَنْ هذا؟ فقال: لا أعرفه، فقال الفرزدق الشاعر أنا أعرفه:

هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ البَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ     وَالبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلّهِمِ          هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ

إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا:            إِلَـى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الكَرَمُ

يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ              رُكْنُ الحَطِيْمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ

يُغْضِي حَيَاءً، وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ      فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِيْنَ يَبْتَسِمُ

هَذَا ابْنُ فَاطِمَةٍ إِنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ        بِجَدّهِ أَنْبِيَاءُ اللهِ قَدْ خُتِمُوا

وفضائل ومناقب الإمام السجّاد زين العابدين رضي الله عنه أكثر من أن تُحصر في هذه الورقات. كانت ولادته يوم الجمعة سنة ثمان وثلاثين للهجرة وتوفي سنة أربع وتسعين وقيل: تسع وتسعين وقيل: اثنتين وتسعين للهجرة بالمدينة. ودُفِنَ في البقيع عند عمه الحسن بن علي في القبة التي فيها قبر العباس رضي الله عنهم، رحمَ الله الإمام السجّاد الورع الصالح فقد كان حقًّا زينَ العابدين الساجدينَ.