كم من القصص التي سمعناها عن أيام الحرب الغابرة، وكم وكم من مآسٍ حصلت في تلك الأيام، وكثيرًا ما تكبّد الناس الجوع وعانوا من آلامه كبارًا وصغارًا، وهذه واحدة من تلك القصص التي ما زالت تعلق في الذاكرة، سأسردها لما فيها من مواقف عظيمة لأصحاب القلوب الرحيمة… 

هي أم صالح المرأة التي شاء الله أن يكون زوجها من أولئك الذين جرّوهم إلى ساحة الحرب، ليكون في حرب ليست حربه وفي بقعة من الأرض ليست مكانه كما يقولون، فترك زوجته تُعيل طفليها صالحًا وسلمى فكانت تبذل جهدها في تربيتهما والاهتمام بهما ريثما يعود والدهما، لكنها الحرب التي لم تترك شيئًا في بيوت القرويين فالذي يذهب وينضب كان لا يُعوّض، والدار ليس فيها رجل يهتم بالأسرة، فاحتارت أم صالح من أين تأتي بالطعام لأطفالها؟ حتى أتى يومٌ لم يبقَ في دارها ولا حتى ذرة حنطة، فلجأت إلى جارتها كي تقرضها حفنة من الدقيق لتطعم ولديها ولكن للأسف، فحالها ليس أفضل من حال أم صالح، وصار ولدها صالح يعاني ألمًا في بطنه من شدة الجوع ويشكو معاناته لأمه ويطلب شيئًا يأكله وأمه تحتار ماذا تفعل… وبينما هي في خضمّ المعاناة وحرقة الأعصاب سمعت صوت جارتها «أم جابر» تناديها فهرولت لاستقبالها وكانت تحمل بيضة في يدها وقالت لأم صالح: «لقد فتّشت في قنّ الدجاج فلم أحصل منه إلا على هذه البيضة فالدجاج قلَّما يبيض من قلة الغِذاء خذيها وأطعميها لولديكِ»، رفضت في البداية أخذ البيضة وقالت لجارتها أطعميها لأطفالك يا أم جابر، فأصرّت الأخيرة على إعطائها البيضة فأخذتها أم صالح بتأثر شديد، وزفّت الخبر لولدها، ثم سلقتها وأطعمتها لطفليها، ثم ذهبت بعد ذلك لعند المختار تشكو له سوء الأحوال عسى أن تجد عنده ما تستطيع به أن تسدّ رمق أسرتها الصغيرة، لكن المختار تبسّم ابتسامةً يخالطها استياء وحسرة وقال بأنّ حاله ليس بأفضل فالأوضاع سيئة على الجميع، وشكا سوء حاله، فاحتارت في أمرها… لكنه قال لها بأن وكيل الأراضي في القرية المجاورة يطلب عمّالًا للحصاد ومدته شهر كامل وسيعطي كيسًا من الحنطة لكل شخص مقابل عمله، فاتّسعت عيناها فرحًا وغبطة. وغمرها الأمل وقالت له بأنها مستعدة للذهاب والعمل طيلة الشهر مقابل كيس الحنطة. فالتعب يهون لأجل ولديها…

ذهب المختار وسجّل اسمها بين العمال الذين سينطلقون بعد يومين إلى القرية المجاورة. فذهبت لعند جارتها وحكت لها ما جرى معها وأعلمتها بأنها ستأخذ ولديها معها، ولما جاء الموعد سلمت عليها وقالت لها: «المنزل بأمانتك. وإذا جاء أبو صالح، أخبريه بما جرى»…

انطلقت مع العمال عند الفجر، وكان يومًا شاقًّا متعبًا، فالشمس فوق رؤوسهم تلهب أجسادهم، ولم يصلوا إلّا وقد كابدوا من التعب الكثير والجوع قد أضناهم فوصلوا منهكين وبعد طول انتظار في العراء قابلوا الوكيل «السيّد عاصم» كي يسجل أسماءهم ثم تلقّوا التعليمات الصارمة منه، وهدّدهم بأنه لن يرحم من يتلكأ في عمله، ثم وقعت عيناه على أم صالح التي كانت تحتضن ولديها والظاهر أنها أعجبته، فهي امرأة جميلة جدًّا رغم ما رسمته متاعب الحياة على محياها من هموم ومشقة وتعب…

وفي صباح اليوم التالي استأنف الفلاحون عملهم في الحصاد وكانت أم صالح معهم فباشرت عملها بعد أن تركت ولديها في المكان المخصص للنساء كي يبتن فيه، وكانت تعمل من الصباح إلى غروب الشمس، والشمس تلفح محياها، فتلمع عيناها كلمعان الشمس في اليَمّ… ولم يكن في مخيلتها إلا كيس الحنطة الذي ستحصل عليه، والذي سيسد رمقهم لأيام كثيرة دون أن تتألم وهي ترى طفليها يعانيان مرارة الجوع…

وبينما كانت أم صالح تعمل في الحقول، كان ولدها صالح يعاني ألمًا في بطنه وصار يصرخ ويتلوى، فهرعت أخته لتخبر والدتها، فأسرعت أمها لتسعف ولدها صالح وكانت معتادة على هذا لكثرة ما كان يصيبه هذا الألم فسقتهُ مغلي عشبة النعناع وعندما اطمأنّت عليه بعد أن هدأ ألمه عادت إلى عملها بسرعة، وفي طريق عودتها صادفت وكيل الأراضي السيّد عاصم الذي جاء ليتفقد سير العمل فسأل عنها ولما علم أنها ذهبت من أجل ابنها، وقف لينتظرها، ولما عادت ورأته، ارتبكت كثيرًا ثم تأسفت له واعتذرت وأخبرته بما حصل لابنها… فقال لها وهو يبحلق في عينيها: «هذه المرة سأسامحك ولكن في المرة القادمة، إذا تكرر هذا الأمر فسيكون حسابك عسيرًا». فقالت له: «لا لن يتكرر ما حدث شكرًا لك».

ثم نظر إليها نظرة مريبة وقال: «إلا إذا سمعت الكلام يا أم صالح وكنتِ مطيعة، فسأكون كريمًا معكِ»، فقالت له: «ماذا تقصد بكلامك؟؟» أجابها: «أنت تفهمين قصدي ثم اقترب منها فابتعدت عنه وأشاحت بوجهها إلى ناحية أخرى»…

يتبع… في العدد القادم.