الحمد لله ربّ العالمين له النّعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، صلوات الله البرّ الرّحيم والملائكة المقرّبين على سيّدنا محمّد أشرف المرسلين.
أمّا بعـد، اعلم رحمك الله أنّ قطيعة الرّحم من الكبائر بالإجماع وهي من معاصي البدن. وهي تحصل بإيحاش قلوب الأرحام وتنفيرها إمّا بترك الإحسان بالمال في حال الحاجة النّازلة بهم، أو بترك الزّيارة بلا عذر. والعذر كأن يفقد ما كان يصلهم به من المال، أو يجده لكنّه يحتاجه لما هو أولى بصرفه فيه منهم.
والمراد بالرّحم الأقارب كالجدّات والأجداد والخالات والعمّات وأولادهم والأخوال والأعمام وأولادهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الواصل بالمكافئ ولكنّ الواصل من وصل رحمه إذا قطعت” رواه البخاريّ والترمذيّ وقال حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود وأحمد.
ففي هذا الحديث إيذان بأنّ صلة الرّجل رحمه التي لا تصله أفضل من صلته رحمه التي تصله؛ لأنّ ذلك من حسن الخلق الذي حضّ الشرع عليه حضًّا بالغًا.
وقطيعة الرّحم تكون بأن يؤذيهم أو لا يزورهم فتستوحش قلوبهم منه، أو هم فقراء محتاجون وهو معه مال زائد عن حاجته ويستطيع مساعدتهم ومع ذلك يتركهم.
قال الله تعالى ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ [سورة النساء: آية: 1] أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [سورة محمد: ءاية: 22-23].
وروى الطبرانيّ والبزّار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: “مَنْ كان يؤمنُ بالله واليومِ الآخر فَلْيَصِلْ رَحِمَه”.
وروى البخاريّ ومسلم من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنّةَ قاطعٌ يعني قاطع رحم“، أي لا يدخلها مع الأوّلين.
واعلم أنّ رحمك إن كان بحيث تستطيع أن تزوره فلا بدّ أن تزوره ولا يكفي أن ترسل السّلام إليه من غير أن تزوره، إنّما لوقت من الزّمن يكفي إرسال السّلام له، أمّا أن تظل أنت وإيّاه في بلد واحد ثمّ لا تزوره في السّنة ولا في السّنتين ولا في الثلاث سنوات مع تمكنك من ذلك فهذا قطيعة رحم.
أمّا إن كان ذلك الرّحم لا يحبّ دخول هذا القريب بيته ولا يرضى وكان هذا القريب يعلم أنّه لا يرضى فـليس عليه أن يدخل؛ لأنّه لا يرضى “أي” سقط عنه، لكن بقي أن يرسل إليه السّلام أو يرسل إليه مكتوبًا.
هذا في حال لم يكن للشخص عذر، أمّا إن كان له عذر كأن كان في بلد بعيدة ولا يسهل عليه أن يذهب لزيارة أقربائه فلو غاب مثلاً خمس سنين وهو يرسل لهم سلامًا من وقت إلى وقت ما عليه شىء.
ومن الأعذار في عدم زيارة الرّحم أن يكون سمع من قريبه هذا ردّةً كسبّ الله أو الأنبياء أو الملائكة أو الاستهزاء بالقرءان وما أشبه ذلك، فإنّ هذا لا صلة له.
وكذا يجوز له قطعه إن كان فاسقًا يشرب الخمر أو يترك الصّلاة أو يزني وما أشبه ذلك ولكن هذا لا يقطعه إلاّ بعد إعلامه بالسّبب ليزجره عن مثل هذه الأفعال.
قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ سورة الرعد ءاية 25.
وأخرج القضاعيّ في مسنده أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صلة الرّحم تزيد في العمر“. يعني كان في علم الله تعالى أنّه لولا هذه الصّلة كان عمره كذا، ولكنّه علم تعالى بعلمه الأزليّ أنّه يصل رحمه فيكون عمره أزْيَدَ من ذلك بمشيئة الله، فيكون المعلوم المحكوم أنّه يصل رحمه ويعيش إلى هذه المدّة.
وروى البيهقيّ في كتاب القضاء والقدر من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سَرَّهُ أنْ يمدَ اللهُ في عمرِهِ ويوسع له رزقه ويدفع عنه ميتة السّوء فليتّقِ اللهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَه”.
وقطيعة الرّحم من أسباب تعجيل العذاب في الدّنيا قبل الآخرة، فقد روى أحمد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من ذنب أجدر بأن يُعَجَّل لصاحبه العقوبة في الدّنيا مع ما ينتظره في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم” والبغي معناه الاعتداء على النّاس فنسأل الله تعالى أن يعافينا من هذين الذنبين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله.