الحمد للّه وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده وعلى آله وصحبه ومن بإحسانٍ تبعه، أما بعد فقد قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)﴾ سورة آل عمران. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ» رواه البخاري. 

ليعلم أن هذا الحديث العظيم من جوامع كلمه ﷺ وذلك أنّ الله تعالى أعطى سيّدنا محمدًا ﷺ جوامع الكلم وهو أن يقول كلامًا قليل الألفاظ كثير المعاني، فقد أرشد عليه الصلاة والسلام أمَّته إلى اغتنام الصحة والفراغ أي الوقت، وكثيرٌ من الناس لا يعرفون قدر هاتين النعمتين فلا يستفيدون من صحتهم ولا من فراغهم لاكتساب الأعمال الصالحة لتكون لهم زادًا في معادهم فيندمون عند فوات أعمارهم حيث لا ينفعهم الندم، فإن الإنسان إذا حصل له الأمران المذكوران وتكاسل عن الطاعة فهو المغبون أي الخاسر، وكيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره وحياته تقوده إلى موته، وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «ما ندمت على شىء ندمي على يومٍ غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي». وروي عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنه قال: «إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما». فينبغي إذًا للإنسان أن يعرف قدر وقته فلا يُضيّع منه لحظة في غير قُربة، ويُقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل ليكون قائمًا في الخير من غير فتور. وقد خصّص الحافظ ابن الجوزي الحنبلي جزءًا من كتابه «صيد الخاطر» في الكلام في المحافظة على الوقت، وإذا ما عُلم هذا فنقول: «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك»، وعمر الإنسان هو رأس ماله الذي يُنفق منه ومهما كثُر فهو قليل ومهما طال فهو قصير، ولقد قيل: يا من عمره كلما زاد نقص، والآمال تقطعها الآجال والأيام سريعة الزوال، فسرورها ذاهبٌ وحزنها منتهي وأهلها راحلون عنها بما قدموا فيها.

وقد عرف سلفنا الصالح ومن بعدهم من أهل الفضل والتيقظ قيمة الوقت فحافظوا عليه، وحرصوا على اغتنامه في الأعمال الصالحة فجعلوا الدنيا لُجّةً وصالح الأعمال سُفنًا يعبرون بها إلى اليوم الموعود، وفي ذلك روي عن الحسن البصري أنه قال: «أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم»، وجهل أو تجاهل ناسٌ قيمة الوقت فأفنوا أعمارهم وأيامهم في اللهو والمجون وغرّهم الأمل فاستكانوا لوسوسة الشيطان فهلكوا مع الهالكين، وقد روي عن سيّدنا علي أنه قال: «إيَّاك والاتكال على المنى فإنها بضاعة الحمقى»، وجاء عن الأحنف ابن قيس: «كثرة الأماني من غرور الشيطان» أي كثرة الأماني من غير عمل.

فللوقت إذًا أهميته الكبرى في حياة الإنسان وقد أقسم ربُّنا جلَّ وعزّ بأشياء تدلُّ على الوقت والزمان فقال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)﴾ سورة الفجر.

وقال:  ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)﴾ سورة الشمس.

وقال:  ﴿وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)﴾ سورة الضحى.

وقال أيضًا: ﴿وَالْعَصْرِ (1)﴾ سورة العصر، إلى غير ذلك مما يدل على زمانٍ معلومٍ عظيم والله لا يُقسم إلا بعظيم، وهو تبارك وتعالى يُقسم بما شاء من مخلوقاته العظيمة، فإذا أقسم الله تعالى بشىءٍ كان القسم دلالةً على عظيم شأن ما أقسم سبحانه به، وحقيقة الأمر أن هذه المواقيت للناس تجري بأعمارهم وتقع فيها أعمالهم سواءٌ منها الخير والشر ثم ينالون في الآخرة ثمرة ما زرعوا في دنياهم.

فالوقت من ذهب ومن لم يشغله بطاعة الله ذهب، وقد قال ﷺ: “اغتنم خمسًا قبل خمسٍ، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك” رواه الحاكم.

فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله قبل انشغاله بالتوسع بكُلف الحياة والزوجة والأولاد ولم يُهمل بسبب مشاغل الدنيا الأخذ بأسباب النجاة في الآخرة فهو المغبوط، ومن صرف وقته وصحته فـي معصية الله فهو المغبون، فإن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يعقب الصحة إلا الهرم لكفى، وإن أنفس ما تُصرف فيه الأوقات العلم والعمل، والعاقل من استفاد من عنفوان الشباب قبل ضعف الشيخوخة، ومن قوة الصحة قبل الفتور والمرض، وقدّم المال لآخرته قبل أن تأكله آفات الدنيا، وعلم أن أنفاسه معدودة فاستفاد من فرصة العمر الذي وهبه الله تعالى له، فقد رئي الإمام أحمد يحمل المحبرة ويذهب إلى بعض الشيوخ بعدما تقدمت به السن فقيل له: ما هذا وأنت أنت؟ فقال: «المحبرة إلى المقبرة»، وروي عن ابن مالك أحد أئمة النحو أنه حفظ ثمانية أبياتٍ في النزع فكان أحدهم يلقيها عليه وهو يصغي له حتى حفظها وهو في فراش الموت، وجاء عن ابن عقيل الحنبلي أنه قال: “إني لا أضيع ساعةً من عمري حتى إذا تعطّل لساني عن مُذاكرة ومناظرة وبصري عن مُطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح فلا أنهض إلا وقد خَطَر لي ما أُسطّره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عمر الثمانين أشد ما كنت أجده وأنا ابن عشرين”.

والأمثلة على ذلك كثيرة وطويلة وأغلب كبارنا وصغارنا ورجالنا وشبابنا وبناتنا اليوم يقضون أوقاتهم وساعاتهم وأيامهم ولياليهم في ما لا خير فيه فتذهب الأوقات سدًى أو في معصية الله، بل قد صار للناس أوقاتٌ معلومة اتخذوها مواسم لعصيان ربّ العالمين بدل النظر فـي مواسم الخير التي جعلها الله في حياة الناس لاقتناص أوقاتها بكل خير، فيا ضيعان الأوقات والساعات، فقديمًا كان الصبي أو الصبية يحفظان القرءان الكريم فـي سنيهم الأولـى، فمنهم من يحفظ كتاب الله في السابعة أو في التاسعة أو في العاشرة من عمره ثم ينشأ على هدًى وفهمٍ بمعاني كتاب الله وسنة نبيّه ﷺ ودرايةٍ بالعربية فيعرف التنزيه ويتمكن التوحيد فـي قلبه فينزه ربَّه عن مماثلة المخلوقين ويقدّس الله ويعظمه التعظيم الواجب ويقف عند حدّ الشرع، أما في أيامنا فقد تبدَّل الواقع كثيرًا فتنشأ الصبية أو الصبي على الفسق والخلاعة والهوى والجهل بكتاب الله وسنّة نبيّه ﷺ وعدم المعرفة باللغة العربية، وإذا ما ضعف فهم أبنائنا للغة العربية ضعف فهمهم لمعاني آيات كتاب الله وضعف فهمهم لسنة نبيّه ﷺ وضعف فهمهم لنصوص العلماء وبالتالي ضعف فهمهم لدين الله تعالى وهذا ما يريده أعداء الأمّة، ومما ساهم في هذا الخطر المحدق صرف الوقت فيما لا خير فيه وتشاغل الكثير منا بما لا ينبغي بدل العناية بالوقت لصرفه فيما أمر الله تعالى به فانقلبت الأحوال وأضحى أكثر الناس يبحثون عن متاعٍ قليل يقضون فيه أعمارهم بعيدًا عما هو أولى وأجدر بهم.