اعلم وفّقنا الله وإياك أنّ أشرف ما في الإنسان قلبه فإنه أمير الجوارح وإنما الجوارح أتباع له، تعمل بأمره فقد روى الشيخان من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «ألا وإنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صلحت صلح الجسدُ كـلُّه وإذا فسدت فسدَ الجسدُ كلُّه ألا وهي القلب»، واعلم أنّ مَثَل القلب كمثل حصن والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويستولي عليه ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يعرفها، وإذا عرفت مداخل الشيطان أمكنك دفعه بإذن الله.
وليُعلم أن مداخل الشيطان كثيرة ومنها الحسد وهو أن يكره الشخص النعمة التي أنعم الله بها على المسلم دينيةً كانت أو دنيوية وتمنّي زوالها واستثقالها له وأن يعمل بمقتضاه كأن يقول للناس لا تعاملوه حتى لا يزيد ماله. وكذلك من أبوابه الحرص وهو شدة تعلّق النفس لاحتواء المال وجمعه على الوجه المذموم كالتوصّل به إلى الترفع على الناس والتفاخر وعدم بذله إلا في هوى النفس، فمتى كان الشخص حريصًا على شىء قد يعميه حرصه ويصمّه ومتى وجد الشيطان من الإنسان الحرص وحبّ المال حَملَه على الطلب له وإظهاره للبخل وخوفه الفقر فيمنع الحقوق اللازمة كالزكاة والنفقة الواجبة فعن خولة بنت قيس أنها قالت: سمعت
رسول الله ﷺ يقول: «الدنيا خَضِرَةٌ حُلوةٌ فمَن أخذَها بحقّها بورك له فيها، وربَّ مُتخوّض في مالِ الله ومالِ رسوله له النارُ يومَ القيامة» رواه الطبراني.
فينبغي للشخص أن يسعى في إزالة شدّة حبّ المال من نفسه لأن حبّ المال كثيرًا ما يهلك صاحبه وكذلك إذا كان الشخص حسودًا فيجد الشيطان حينئذٍ الفرصة فيحسن عنده وعند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته وإن كان منكرًا أو فاحشًا. ومن أبوابه العظيمة الغضب والشهوة فقد رُوي أن ذا القرنين لقي مَلَكًا من الملائكة فقال: «علّمني علمًا أزداد به إيمانًا ويقينًا»، قال: «لا تغضب فإنّ الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب». ومن أبوابه حبّ التزيين في المنزل والثياب والأثاث فلا يزال يدعو إلى عمارة الدار وتزيين سقوفها وحيطانها والتزيّن بالثياب والأثاث فيضيّع الإنسان عمره في ذلك ليُحسّن مظاهر فانية.
ومن أبوابه سوء الظن بالمسلمين، فإن من حكم على مسلم بسوء ظنّه، احتقره في الغالب وأطلق فيه لسانه ورأى نفسه خيرًا منه ولذلك قال بعض السلف: «من حَسُن ظنّه طاب عيشه»، وإنّ مَن أحسنَ ظنه أراحَ قلبه من كثير من الآفات، أراح قلبه من الانشغال الكثير بالتفكير الذي لا خير فيه، وأراح قلبه من القلق والنكد والهم وسهّل على نفسه معاملة الناس معاملةً حسنة.
وإن علاج هذه الآفات يكون بسدّ هذه المداخل بتطهير القلب من الصفات المذمومة، فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه وينظر فيها، فما رأى فيها من خير حمد الله تعالى عليه، وما وجد فيها من شرّ سعى لأن يغيّره وأن يتخلّص منه، فإن الله تبارك وتعالى قد أنعم علينا بأن سهّل لنا معرفة الأحكام الشرعية، فقد قيَّض لهذه الأمّة علماء أجلّاء بيّنوا لنا الأحكام الشرعية من القرءان والحديث وإجماع المسلمين، ومنها نتعلّم ما هي الأمراض القلبية وكيفية علاجها والتخلّص منها كالإكثار من ذكر الله تعالى كما
قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾ سورة الرعد، ومخالفة الشخص هواه وشيطانه بأن يجعل الآخرة نُصب عينيه ويجعل همّه الآخرة. وقد يجد الشخص صعوبةً شديدةً في تغيير أمر اعتاد عليه ووافق فيه هواه زمنًا طويلًا فلقد قال أحد الأكابر: خالفتُ نفسي أربعين عامًا حتى استقامت.
ونحن في زمن غُمِرنا فيه بالنّعم والراحات منذ الصغر فلن يكون من السهل علينا تركها لكن بإمكانك أن تعمل شيئًا فشيئًا على نفسك بأن تعمل بما ذكرنا وأن تتلقّى العِلم وتنظر في سيرة النّبيّ عليه الصلاة والسلام وأعمال الصالحين فتتعلّم من أخلاقهم وسيرهم كيفية الاحتراز عن هذه الأمراض والعمل للآخرة. فلا يهون على الشيطان الاستيلاء على قلبك فيمنعك من علاج أسقامك وعمارة قلبك بالتقوى، ولا تستصغرنَّ فعل المعصية فإن فعل المعصية قد يجرّ إلى فعل غيرها، والمعصية الصغيرة قد تجرّ إلى فعل الكبيرة، ثم كثرة المعاصي قد تجرّ إلى الوقوع في الكفر، لأن المعاصي لها أثر على القلب فإنها تبعده عن الدين. وقد رُوي أن الإمام الأوزاعي بعث رجلًا يسأل نباش القبور عمن مات من أهل التوحيد ووجّهه إلى القبلة فقال: أكثرهم حُوّلَ وجهُه عن القبلة فكتب الرجل ذلك إلى الأوزاعي فكتب إليه: إنا للّه وإنا إليه راجعون ثلاث مرات، أما من حوّل وجهه عن القبلة فإنه مات على غير السنة. فقيل لعل الإمام الأوزاعي رضي الله عنه أراد بالسنة ههنا ملّة الإسلام والمعنى والله أعلم أن الإصرار على المعاصي يجرّ كثيرًا من العصاة إلى الموت على الكفر.