إن الناس متفاوتون في طول الأمل تفاوتًا كثيرًا فمنهم من يأمل البقاء إلى زمان الهرم ومنهم من لا ينقطع أمله، فكلما كَبِرَ في السن أمَلَ أن يعيش أكثر ومن الناس من هو قصير الأمل. رُوي عن أبي عثمان النهدي أنه قال: «بلغت ثلاثين ومائة سنة وما من شىء إلا قد عرفت فيه النقصان إلا أملي فإنه كما هو». وإن أسباب طول الأمل متعددة ومنها حبّ الدنيا. 

فإن الإنسان إذا أنس بالدنيا وبشهواتها ولذاتها وعلائقها ثقل على قلبه مفارقتها فامتنع قلبه في الغالب من التفكّر في الموت الذي هو سبب مفارقتها وأشغل فكره بالأماني فَيمنّي نفسه بما يوافق مراده من البقاء زمنًا طويلًا في هذه الدنيا وما يحتاج إليه من مالٍ وأهل ومسكن وأصدقاء وسائر أسباب الدنيا فيصير قلبه عاكفًا على هذا الفكر فيَلهو عن ذكر الموت ولا يقدّر قربه، فكثير من الناس إذا خطر لهم الموت في بعض الأحوال والحاجة إلى الاستعداد له سوَّف بذلك ووعد نفسه وقال: الأيام طويلة… عندما أكبر أتوب، وإذا كبر قال: إلى أن أصير شيخًا، وإن صار شيخًا قال: إلى أن أفرغ من بناء هذا الدار وعمارة هذه الضيعة أو أرجع من هذا السفر.

ولا يحرص في إتمام شغل إلا ويتعلّق به عشرة أشغال وهكذا علـى التدريج يؤخر يومًا بعد يومٍ ويشتغل بشغلٍ بعد شغل إلى أن تحضره المنية في وقت لا يحتسبه. فينبغي للإنسان أن يستحضر دومًا قول سيّدنا جبريل للنّبيّ ﷺ:
«يا محمّد، أحبِبْ مَن شئتَ فإنك مُفارِقُه» رواه الحاكم، لكي يسهل على قلبه عدم التعلق الشديد بهذه الدنيا الزائلة وما فيها من الملذات لأن حبّ الدنيا نتائجه قد تكون مهلكة، فإن حبّ الدنيا قد يوقع في الحرام وقد يوصل إلى الكفر، فبعض الناس من شدّة تعلّقهم بالدنيا وحبّ ما فيها يشتغلون في الحرام ويكون مالهم من الحرام وملبسهم من الحرام مريدين التفاخر والاستعلاء على الناس، وبعضهم إذا فقد شيئًا ووجده عند غيره اعترض على الله والعياذ باللّه تعالى من الكفر.

والسبب الثاني من أسباب طول الأمل الجهل فإن من الناس مَن يستبعد قرب الموت مع الشباب ولا يتفكر بأنه إلى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبي وشاب، وقد يغترّ بصحته ولا يدري أن الموت يأتي فجأة وإن استبعد ذلك، فإن المرض يأتي فجأة وإذا مرض لم يكن الموت بعيدًا، ولو تفكر وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص من صيفٍ وشتاء وربيع وخريف وليل ونهار ولا هو مقيّد بسنّ مخصوص من شباب وكهولة وشيخوخة لعَظُمَ ذلك عنده واستعدَّ للموت بإذن الله تعالى، فعلى الإنسان أن يكون دائم الاستعداد وأن يكثر التفكّر في الموت ولا يغترّ بشبابه وأن لا يطول أمله فإن هذا يساعده على أن يغتنم شبابه في طاعة الله عزّ وجلّ.

فقد قال رسول الله ﷺ لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» رواه البيهقي. وهكذا هو شأن الصالحين كانوا يبادرون بالأعمال غاية ما يستطيعون فكان ابن عمر رضي الله عنهما يقوم في الليل فيتوضأ ويصلي ثم يغفو إغفاء الطير ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ثم يغفو إغفاء الطير ثم يقوم يصلي يفعل ذلك مرارًا، وكان عمير بن هانئ يسبّح كل يوم مائة ألف تسبيحة، وقال أبو بكر بن عياش: «ختمت القرءان في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة».

وكلما قَصُر الأمل جاد العمل إن شاء الله لأن الشخص يقدّر أن يموت اليوم مثلًا فيستعدّ استعداد ميت، فإذا أمسى شكر الله تعالى على السلامة وقدّر أنه يموت تلك الليلة فيبادر إلى العمل وهكذا. وقد ورد الشرع بالحث على العمل والمبادرة إليه، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال
رسول الله ﷺ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ النَّاسِ الصحَّةُ والفراغ». نرجو الله تعالى أن يجعلنا من المتعبّدين الزاهدين المسرعين إلى الطاعة المكثرين من العبادة المبتعدين عن الحرام، والمغتنمين للصحة قبل السقم وللشباب قبل الهرم والحامدين الشاكرين على كل النّعَم.