تحدث في الحياة أحداث تدفعنا لإعادة التفكير في الناس الذين يحيطون بنا. وتحدث في الحياة أحداث تبيّن لنا المعادن الحقيقية للناس. ونلتقي في الحياة بأناس ونتعرف على أناس ونفترق عن أناس بعضهم يتركون بصمة وبعضهم يمرّ مرور الكرام كما يقال، وبعضهم يترك ندوبًا في قلوبنا كلما مرّ طيفهم أوجعنا الندب.  القصة الواردة في هذا المقال هي قصة قد تكون حدثت بالفعل وقد تكون من نسج الخيال وقد تكون مشابهة لقصة حدثت مع أي شخص منا، لكن هذه القصة ستدفع الشخص منا لإعادة التفكير في مجتمعنا وفي محيطنا.

«الله يرحمك يا أبو عزيز أديش كان عندك نظرة بعيدة، رحت أنت وراحت عيلتك وبقي هالبيت» تلك كانت الكلمات التي تفوّه بها أبو أحمد صاحب محل الخضار المجاور لبيت أبي عزيز. قال تلك الكلمات وهو يغلق باب دكانه وينظر بحسرة إلى باب بيت أبي عزيز المقفل بالشمع الأحمر. قالها وهو يتذكر صاحبه وجاره أبا عزيز وكيف كان طوال حياته يحمل هم أولاده الثلاثة عزيز، أيمن ورنا. أبو أحمد يتذكر بالتفاصيل حديث أبي عزيز معه قبل فترة وجيزة من موته، عندما أخبره بنيّته بيع ذلك البيت العربي العتيق المتمركز وسط الحي المحاط بضوضاء المدينة والبنايات الشاهقة الجديدة، أو علب السردين كما كانت تسمّيها أم عزيز.

كانت أسرة أبي عزيز من أوائل الأسر التي سكنت في الحي وكانت الأسرة تمتلك بيتًا مؤلّفًا من طابقين -أو كما نطلق عليه البيت العربي- كما كان الحال مع كل بيوت المحلة. لكن الوضع تغيّر في السنوات الثلاثين الماضية فالهجمة العمرانية الحديثة قضت على الطابع التراثي للحي وحوّلته إلى عمارات شاهقة يتنافس أصحابها على عدد الطوابق فمنها ما هو مؤلف من ستة طوابق ومنها ما هو مؤلف من ثمانية طوابق وأخرى من عشر طوابق، إلا بيت أبي عزيز بقي حتى آخر أيام أبي عزيز بيتًا عربيًّا قديمًا. وكان الحديث اليومي بين أبي عزيز وأم عزيز يدور حول بيع البيت. «يا أم عزيز اسمعي مني، أنا قلق على الأولاد عندما نموت سيتشاجرون على الميراث، دعينا نبيع هذا البيت والمتعهّد وعدني أننا سنحصل على أربع شقق نسكن في واحدة ونعطي الثلاثة الباقية لعزيز وأيمن ورنا عندها سيقنعون ولن يحصل ما لا تحمد عقباه» وكان ردّ أم عزيز دائمًا «هذا البيت الذي شهد أحلى لحظات حياتنا في كل زاوية منه ذكريات لنا ولأولادنا، لن نبيع البيت، عندما أموت افعل ما شئت، لكن طالما هناك نفس يدخل ويخرج من جوفي فهذا البيت سيبقى كما هو».

تزوّج عزيز وتزوّج أيمن وسكن كلاهما في بيت الأسرة الكبير وكان لكل منهما غرفة وحمام خاص، وكانت علاقة «الحماة والكناين متل السمنة عالعسل» كما يقولون. كانت زوجتا عزيز وأيمن لا تدعان أم عزيز تعمل شيئًا في البيت بل كانتا تقومان بأعمال البيت من تنظيف وترتيب وطبخ بمفردهما، وكانت أم عزيز دائمًا تدعو لولديها وزوجتيهما بالخير. وبعد فترة وجيزة تزوجت رنا «صغيرة العيلة» وغادرت مع زوجها بيت الأسرة، الصغير الكبير، وبعدها بفترة غادر أبو عزيز الدنيا وعمّت أجواء الحزن بيت الأسرة. وهنا تبدأ الحكاية.

بعد موت أبي عزيز انطوت أم عزيز على نفسها ولم تعد كسابق عهدها، أصبحت لا تغادر غرفتها إلا للضرورة. بعد موت أبي عزيز تغيّر الحال في البيت وكأن الحياة أصبحت «أبيض وأسود» بعد أن كانت مفعمة بالألوان، بعد موت أبي عزيز حصل ما كان في حسبانه. لم تعد زوجات الأبناء كسابق عهدهنّ، لم تعد الكناين سمنة على عسل مع أم عزيز، وبدأ الشيطان يدخل بين الأخوين وزوجتيهما، وبدأ الشجار على الميراث بين الإخوة.

أصبحت الحياة لا تطاق في البيت الكبير، شجار طوال الليل والنهار على قسمة الميراث وأم عزيز كالحكم بين أولادها، وما زاد الطين بلّة تدخُّل الصهر للحفاظ على «حق زوجته رنا» كما كان يزعم في كل اجتماع للأسرة. تنافرت قلوب الإخوة حتى كلمة «صباح الخير» لم تعد تصدر من أحدهم للآخر مع أنهم يسكنون البيت نفسه. كيف يكون للمال هذه السلطة والسيطرة على قلوب ضعفاء النفوس؟!. كيف لبعض الأوراق النقدية القوة لتفريق الإخوة وجعلهم ينسون ذلك الرابط القوي الذي يسمّى أخوّة!!.

وبالعودة لقصتنا، بقي الوضع على حاله حتى كانت الليلة المشؤومة، عندما حضر أيمن في وقت متأخر من الليل إلى البيت ودخل غرفته فوجد زوجته تبكي وعندما سألها عن السبب أخبرته أن زوجة أخيه أهانتها ووجّهت لها كلامًا قاسيًا لأنها لم تنظّف المطبخ بعد أن كانت قد استعملته في وقت سابق ذلك اليوم. عندها ثار جنون أيمن واتّجه إلى غرفة عزيز وبدأ بالصراخ وتوجيه الشتائم لأخيه وزوجته. لم يتحمل عزيز ذلك الموقف فخرج من غرفته هو الآخر وبدأ بالصراخ على أخيه «ومن كلمة لكلمة» بدأ الطرفان بالعراك وسط صراخ النساء وأم عزيز، عندها تناول أيمن حديدة مستدقة الطرف كانت موضوعة على حافة الدرج ووجّه ضربة إلى رأس أخيه. وعمّ السكوت للحظات في البيت تبعه عويل وصراخ أشدّ من ذي قبل.

أخ مسجون، وأخ ينازع بين الحياة والموت، وبيت مهجور مختوم بالشمع الأحمر حتى انتهاء التحقيق. ذلك كان الفصل الأخير من قصة البيت العتيق.

لم يكن أجدادنا يمزحون عندما قالوا: «القصة مش قصة رمانة»، فقصة المطبخ لم تكن القصة التي أدت إلى تلك النهاية المحزنة بل السبب الحقيقي لهذا هو ضعف النفوس وتعلّق القلب بالدنيا والأخطر من ذلك كله هو البعد عن تقوى الله وعن علم الدين، فلو التزمت تلك الأسرة تقوى الله لما آل الوضع إلى ما هو عليه. علّ هذه القصة تكون كمنبه لكل واحد منا لتدفعنا إلى ترك حبّ الدنيا وإلى تعلّم ما ينفعنا في معيشتنا وآخرتنا، حتى لا يقال عنا «كلو منشان رمانة»، والسلام.