اقترب السيّد عاصم من أم صالح محاولًا إمساك يدها، لكنها ابتعدت إلى الوراء وأشاحت بوجهها عنه ثم قالت له بلهجة ملؤها العزة والإباء: اسمع يا سيّد عاصم، يبدو أنك لم تتعرف عليّ جيّدًا، لذلك سأعرّفك بنفسي من جديد، أنا أم صالح، أنا امرأة حرّة لا تقبل الغلط ولا الطرق الملتوية، مهما كان الذي بانتظاري مغريًا… 

فأجابها بعد أن ارتسمت على وجهه ملامح المكر والدهاء ونظر إليها بشىء من التهكم قائلًا: كفاك يا امرأة لقد مرّ على رأسي الكثيرات من أمثالك وقُلن هذا الكلام عينَهُ في البداية وأبَيْنَ بادئ الأمر لكنهنّ بعد ذلك أتين صاغرات وسمعن الكلام. وأعدك بأنكِ لن تعرفي الجوع بعد الآن أنتِ وولداكِ وسأوفر لكم كل أسباب الراحة والهناء وسأجعلك كالأميرات…

احمرّ وجه أم صالح، وضربت رجلها في الأرض وصرخت كاللبوة الثائرة: أنا لا، وعزة الله، أنا حرّة وسأبقى إلى أن أموت، أصون كرامتي وكرامة زوجي ما دمت حية، وإذا فكرتَ وسوّلت لك نفسك أن تضايقني وتذلني أيها الوكيل فلن يكون هذا إلا على جثتي… إن كنوز الدنيا لا تساوي جزءًا من عزة نفسي وشرفي، اسمع يا هذا نموتُ أنا وأطفالي جياعًا ولا أحني رأسي وأعصي الله تعالى…

تسمَّر السيّد عاصم في مكانه، وبدا مذهولًا مستغربًا. فكان كمن تلقّى صفعةً مؤلمةً على وجهه. ثم بعد قليل كسر سكون الصمت وقال لها: حسنٌ حسنٌ اهدئي يا أم صالح اهدئي… كما تريدين لن أضايقك بعد الآن ولنْ أعترض طريقك، أعدك يا أختاه… فأجابته وهي تبكي ومحياها يعبق باللون الوردي، ثم صاحت بصوت جهوري يَصِفُ ألمها العميق: أعطني الأمان!! فقال: أعطيك الأمان، قالت: وكيس الحنطة؟؟!! أجابها: ستأخذينه كاملًا لا تخافي، اذهبي أيتها الحرة وأكملي عملك… ذهبت أم صالح ونظرات السيّد عاصم تلحقها ولكن هذه المرة مُعجبًا بهذا الكم الهائل من العزة والكرامة اللتين تكللان هذه الحرة…

انتهى وقت الحصاد وحان موعد تسليم الفلاحين أكياس الحنطة ووفى الوكيل بوعده لأم صالح فلم يضايقها وأتى دورها كي تتسلّم كيس الحنطة، تسلّمت الكيس بعد أن نظر إليها السيّد عاصم نظرة احترام وتقدير وقال لها: لا تحملي الكيس، سيوصلكِ أحد رجالي في العربة، شكرته وصعدت العربة مع أطفالها وجلست بقرب الكيس تحيطه بذراعيها وكأنه أحد أولادها.

اتجهت العربة إلى القرية وبعد أن قطعت مسافة كبيرة وصارت القرية قريبة منهم سألها ولدها: هل سيكفينا كيس الحنطة يا أمي ريثما يعود والدي؟ فردت عليه أخته: سيكفينا إذا اقتصدنا به أيها الذكي… ضحكت أمها وضمتها بحبّ وحنان ولكن فجأة حصل أمر أرعب الدابة التي كانت تُقل العربة، لعلَّها رأت شيئًا أخافها «فهاجت وماجت» وصارت تتخبط يمينًا ويسارًا ثم زادت في سرعتها ولم يستطع صاحبها أن يهدئها. حتى أفلتت من العربة التي اصطدمت بالأرض بقوة وانكسرت… لكن لم يُصب أحد بأذى، فاعتذر الرجل من أم صالح وقال لها بأنه لن يستطيع إيصالها إلى قريتها بسبب ما حصل، فقالت له: لا بأس سنكمل طريقنا وحدنا فالقرية لم تعد بعيدة يا أخي شكرًا لك، ثم تركته ليحل مشكلة العربة وأكملت الطريق وهي تجرّ ولديها وكيس الحنطة على ظهرها، لكن وقبل أن يصلوا قريتهم التي باتت قريبة منهم كثيرًا، حلّ الليل وصعب عليهم مواصلة السير فجلسوا لكي يرتاحوا قليلًا علَّهم يلتمسون طريقهم بواسطة ضوء القمر… لكن عصابة انقضت عليهم فجأة وكأنهم كانوا يراقبونهم، إنهم قطاع طرق، وعلى رأسهم رجل ملثم يقدح الشرّ من عينيه، نظر إليها مبحلقًا فأرعبها وطفليها، لكنها وبكل رباطة جأش وقفت وقالت: بحق الرسل والأنبياء، بحق حبيبك محمّد اتركني أمضي في سبيلي، أرجوك إذا وسوس لك الشيطان بشىء فأنا امرأة شريفة، وإذا كنت تريد أن تأخذ كيس الحنطة الذي أحمله فأنا قد عملت شهرًا كاملًا في الحصاد كي أحصل عليه وتشققت يداي وتصببت عرقًا كي آتي به لأطفالي فأبوهم غائب وكدنا نموت جوعًا، وكان الرجال يحيطون بهم وهم يتحضرون لسلبها ما على ظهرها. ثم هجم الرجل الملثم عليها، فدفعته بكل قوتها وصرخت بطفليها أن يركضا أمامها ثم لحقتهم والكيس على ظهرها يُثقل حركتها، فلم تكد تمشي بضعة أمتار حتى رفع أحدهم سلاحه فأطلق النار عليها فأخذ الرصاص ينهال على ظهرها فثُقب كيس الحنطة واخترقت بعض الرصاصات جسدها، لكنها واصلت المسير رغم هذا والحنطة التي كانت تتساقط من الكيس كانت ترسم خطًا واحدًا على طول الطريق الذي قطعته ملونًا بالأحمر، تلك دماؤها التي كانت تسيل وتختلط بالحنطة التي فرغت من الكيس، ثم ارتمت على الأرض، وركض أهالي القرية ناحية الصوت ووصلوا إليها وتحلّقوا حولها، بدت وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، فأمسك ولداها بيديها ويقولان: أمي! أمي!، فتحت عينيها للمرة الأخيرة وقالت بصوت ضعيف: أخبرا أباكما عندما يعود بأن أمكما حفظت كرامته وماتت شريفة نقيّة طاهرة، وأنت يا سلمى عندما تكبرين وتصبحين أمًّا ستعرفين تمامًا ما معنى الأم، هي الحب والعطاء هي ملجأ الأمان لأولادها… تلك هي أم صالح الطاهرة الحُرة…