لا زلتُ أذكرُ تلك الأيام… أيام زمان… عندما كنّا نمضي ليلة العيد فرِحين بملابسنا الجديدة لدرجة أننا نصارع النعاس! 

نُطفئ ضوء غرفتنا ويبدأ حديثنا أنا وإخوتي الذي كان يتمحور عمّن سيجمع «عيديّات» أكثر من الآخر… ومَن سيلبس ثيابه الجديدة قبل الآخر… ولطالما كان ينتهي الحديث بصوت سعال أبي الذي كان يُعلِمنا بأنه استيقظ وعلم بسهرنا…

تنخفض أصواتنا شيئًا فشيئًا ويغلبنا النعاس فننام لساعات قليلة ونستيقظ على صوت خالي الذي كان يفاجئنا دائمًا بقدومه بعد أذان الفجر ومعه الحلويات التي كنتُ أحبّها كثيرًا…

يكشفُ الغطاء عنّا ويقبّلنا…

«كل عام وأنت بخير يا خال…» أول جملة ننطقها ونحن نحاول أن نفتح أعيننا الناعسة… ومن هنا يبدأ يوم السعادة… نصلّي الفجر جماعةً ونقبّل يدي أمي وأبي ونعايدهما، ثم يذهب أبي وأخي وخالي إلى المسجد ليصلّوا صلاة العيد ومن بعدها يذهبون إلى المقبرة لزيارة مَن سبقونا مِن أهل القبور، وأنا وأختي بانتظارهم على شُرفة المنزل بعد أن لبسنا ثياب العيد، نسلّم على هذا، ونعايد هذه، ونرى أصدقاءنا وأهاليهم في الطرقات وأصوات التكبيرات تصدح في المحلّة…

ويقطع ذلك كلّه «زمور» سيارة خالي كإشارةٍ بأنه ينتظرنا لنذهب لبيت الأسرة.

بيت جدّي… كان بيته كبيرًا وجميلًا جدًّا بأشجار الليمون التي تزيّن ساحته والورود الملوّنة التي لطالما كانت أمي تمنعني من قطفها رغم إلحاحي..

قُبُلات حارّة ومشاعرُ فرح وبهجة وأصوات الأولاد تملأ البيت… كبار الأسرة في الصالون يتحدثون عن شؤون أفرادها ومَن منهم يحتاج إلى المساعدة في أمر ما، كانت الأُلفة والمحبّة تجمعهم ولا سبيل لشهوات الدنيا ومآرب الشيطان أن تفرّق تلك الأسرة الكبيرة المُتحابّة… بينما كان الأطفال هنا وهناك في الساحة يلعبون ويتشاجرون ثم يقولون «اليوم عيد ولن أزعل منك» وينتهي الشجار بعناق وضحك… «وخروف العيد» مربوط بجذع الشجرة يهزّها بحركةٍ قوية وتتساقط علينا أوراقها وسط سرور وفرح يعمّان الساحة…
إلى أن يأتي جدّي ويطلب من جدّتي إحضار «كيس الفراطة»!

أجل! ذلك الكيس الذي كان يُصدر صوتًا ننتظره في كل عيد!

يضع يده في الكيس ويحرّكها والأطفال مجتمعون حوله بانتظار العيدية…

ليرة لكل طفل… أجل ليرة… كم كنّا نفرح بها! ونسرع لنخبّئها في محفظةٍ طلبنا من أمّنا شراءها لنا خصّيصًا للعيديات…

ثم يذهب ويأتي بسكّين كبير مسنون ليذبح الأضحية كما علّمنا نبيّنا محمّد ﷺ في الحديث: «وإذا ذبحتُم فأحسِنُوا الذّبحةَ، لِيُحِدَّ أحدُكُم إذا ذبحَ شفرتَهُ، وَلْيُرِحْ ذبيحتَهُ» رواه النسائي، فيبدأ جدّي بالتسمية ويصلّي على النّبيّ ﷺ ويستقبل القِبلة ويُكبّر ثم يدعو الله أن يتقبّل منه، ويطلب من أمي وخالاتي تقسيم الأضحية بعد ذبحها لتوزيعها على الفقراء والمساكين… تلك هي السنّة التي بيّنها لنا النّبيّ ﷺ في ذبح الأضاحي…

كم كانت النفوس حينذاك بسيطة وقنوعة…
لا يغرّها كثرة المال بل يُفرحها القليل النابع من القلب…

كانت تكفينا تلك اللحظات لنرى الحياة وكأنها أعطتنا كل ما لديها من أفراح… لم نكن نعلم ما الذي كان مختبئًا في طيّاتها… لم نكن نعلم أنّ تلك الأسرة الكبيرة ستفرّقها الحروب…
كلٌّ في بلد…

سأكتفي بالكتابة إلى هنا لأنني لم أعد أستطيع كتم دموعي…

فلا الدارُ الكبيرةُ بقيت… ولا لمساتُ جدي وجدّتي ستداعب خدّينا من جديد… حتى «كيس الفراطة» بلِيَ وتمزّق…