روى البخاري ومسلم من حديث أبـي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “العُمرة إلـى العمرة كفّارةٌ لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة”.
لقد بدأ المسلمون بعد رحيل شهر رمضان المبارك بالاستعداد لفريضة أخرى هي فريضة الحج، وثارت في النفوس الطيّبة نوازع الشوق والحنين لأداء الحج حيث يجتمع المسلمون من شتى بقاع الأرض على اختلاف ألسنتهم وألوانهم يدعون ربهم تبارك وتعالى، ويتعارفون ولا يتفاضلون إلا بتقوى الله كما أخبر الحبيب المصطفى رسول الله ﷺ: «لا فَضْلَ لِعَرَبِيّ عَلَى عَجَمِيّ، وَلا لِعَجَمِيّ عَلَى عَرَبِيّ، وَلا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلا بِالتَّقْوَى» رواه الإمام أحمد.
إن الحج يُكفّر الذنوب الكبائر والصغائر ويجعل الإنسان كيوم ولدته أمه على أن تكون نيّته خالصة للّه عزّ وجل، وأن يكون المال الذي تزود به لحجّه طيّبًا حلالًا، وأن يحفظ نفسه أثناء الحج من الفسوق أي من كبائر الذنوب ومن الجماع مدّة إحرامه، فمن تيسّر له ذلك فليحمد الله على هذه النعمة الكبرى.
ومن الأدلة على فضل الحج أنه قد جمع أنواع رياضة النفس، أي تهذيبها وتطهيرها، ففيه إنفاق مال ومجاهدة نفس بنحو الجوع والعطش والسهر، ومكابدة السفر ومتاعبه، مع ما فيه من فراق الوطن والأهل والإخوة والأصحاب والأحباب. وقد جعل الله تعالى للحج مزية تكفير الذنوب الكبائر والصغائر، وليست هذه المزية لغير الحج من نحو الصلوات الخمس وصيام رمضان والزكاة وغير ذلك.
على أن المزية لا تقتضي الأفضلية، فإن الصلاة ولو لم يكن فيها هذه الخاصية هي أفضل عند الله من الحج.
ونصيحتنا لـمُريد الحج أن يُولي الاهتمام بالعلم الشرعي فإنّ مَن جَهِلَ أحكام الحج فدخل فيه بغير علم لا يضمن صحة ما يقوم به. وقد قال العلماء: «يجب على كل مسلم أن لا يدخل في شىء حتى يعلم ما أحلَّ الله تعالى منه وما حرَّم فإن الله عزَّ وجل تَعبَّدنا أي كلّفنا بأشياء فلا بد من مراعاة ما تعبَّدنا الله تعالى به»، أي مَن دخل في عبادة ما أو معاملة مالية مثلًا بغير تعلم أحكام الشرع فيها فقد عصى الله، وفي الغالب يقع بسبب جهله في مُفسد من المفسدات، فلا يصح عمله وهو لا يدري، ولا يكون معذورًا بجهله. لأن الجهل بالعلوم الضرورية ليس عذرًا في دين الله تعالى فلا بد من العلم لمريد الحج أو الزكاة أو الصلاة أو غير ذلك من سائر العبادات والمعاملات.
إخواني.. لقد جعل الله عزَّ وجل في حياة المؤمنين مواسم خير تُضاعف فيها الأجور، فجديرٌ بالعاقل أن يغتنم هذه المواسم بما يكون ذخرًا له في قبره وفي آخرته.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾ سورة آل عمران. والأولـى بطلاب الآخرة اغتنام الأوقات التي جعل الله فيها أسرارًا وبركاتٍ ليست في غيرها، فإن ذهاب العمر بغير طاعة الله تعالى خسارةٌ كبيرة، وقد خَلَقَنا الله تعالى لحكمةٍ عظيمة سامية تجلَّت في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57)﴾ سورة الذاريات.
ومواسم الخير التي يهتم لها مريد الآخرة كثيرة جدًّا، ومنها العشر الأُول من شهر ذي الحجة. ومما يدلّ على فضل العشر الأُول من شهر ذي الحجة أن الله قال في القرآن الكريم: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)﴾ سورة الفجر. والليالي العشر هي العشر الأوائل من ذي الحجة، وهذا هو الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين من أئمة السلف وغيرهم. وإذا ما أقسم الله تعالى بهذه الأيام، والله يُقسم بما شاء من مخلوقاته، فمعنى ذلك أن لها شأنًا عظيمًا وشرفًا ونفعًا خاصًّا لأن الله لا يُقسم بما لا نفع فيه.
وقد رُوي فـي فضل صيام أيام العشر الأُول من ذي الحجة وقيام لياليها وكثرة الذكر فيها أحاديث كثيرة. أخرج الدارمي في سننه عن ابن عباس عن النبيّ ﷺ قال: «ما من عمل أزكى عند الله عزَّ وجل ولا أعظم أجرًا من خير تعمله في عشر الأضحى». فدلَّ هذا على أن العمل في هذه الأيام أحبّ إلى الله تعالى من العمل في سائر أيام الدنيا، فعمل البر والإحسان فيها يزيد على ما سواه، وتزكو الأعمال الصالحة فيها أكثر ممّا إذا عُملت في غيرها، مع ملاحظة أن النفل لا يُعادل الفرض، لأن الفرض أفضل ما يتعبّد به المسلمُ ربَّه تعالى.
ومن جملة فضائل شهر ذي الحجة أنه خاتمة أشهر الحج التي قال الله تعالى فيها: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ سورة البقرة، وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة،
يقول عزَّ وجل: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ سورة الحج/28. وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، وممن قال ذلك: ابن عمر وابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وهو قول أبي حنيفة والشافعي وآخرين، وكان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر الأُول من ذي الحجة يُكبّران ويُكبّر الناس بتكبيرهما.
وهي الأيام العشر التي هي من جملة الأربعين التي واعدها الله عزَّ وجلّ سيّدنا موسى عليه الصلاة والسلام، ثم أوحى إليه ما أوحى، قال تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ سورة الأعراف/142.
نسأل الله أن يتقبّل منا صالح الأعمال ويرزقنا زيارة الحبيب المصطفى ﷺ وأن يرحمنا برحمته الواسعة..
وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.