الحمد للّه ربّ العالمين القائل في محكم تنزيله: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (7)﴾ سورة آل عمران/7، والصلاة والسلام على رسول الله سيّدنا محمّد مَن بيَّن لنا الحقائق وأزال عنّا الشُّبُهات، مَن أنار الله به الأفئدة ومحا عن أعيننا الظلمات، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واهتدى بهديه واقتدى بنهجه إلى يوم المعاد.
أما بعد، فإن العلم بتفسير القرءان، والعلم بالتأويل، وتصفية القلب من شوائب الأوهام أمر مهم، وبه سلامة للمرء في دينه، لأن القرءان الكريم فيه المُحكم والمتشابه، فالمُحكم هو البيّن الواضح الذي لا يلتبس أمره، أي ما عُرِف المعنى المُراد منه بوضوح أو لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا من التأويل كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ سورة الشورى/11. وأما المتشابه فهو ما لم تتضح دلالته أو احتمل أوجهًا عديدة واحتاج إلى النظر لحمله على الوجه المطابق كقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)﴾ سورة طه، فإن كلمة استوى تحتمل خمسة عشر معنًى بحسب وضع اللغة ولا يجوز تأويلها إلا على المعنى اللائق في حق الله تعالى، كأن يُقال قهرَ وحفِظَ وأبقى العرش، والفائدة من تخصيص العرش بالذكر أن يُعْلَم أن الله تعالى مسيطرٌ على كلّ المخلوقات لأنّ العرش أكبر المخلوقات حَجْمًا فيُعلم شمول ما دونه من باب أولى. ولا يجوز تفسيرها على معنى الجلوس والاستقرار، فلا يجوز أن يقال استوى أي جلس لأن الجلوسَ لا يكون إلا من ذي أعضاء والأعضاء مستحيلةٌ على الله، قال الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «إنّ الله خلق العرش إظهارًا لقدرته ولم يتخذه مكانًا لذاته» رواه الإمام الفقيه اللغويّ أبو منصور التميمي في كتابه التبصرة.
ثم المتشابه على قسمين:
- 1. قسم لا سبيل لنا إلى معرفته، كوقت قيام الساعة، وخروج الدجال، وخروج الدابة على التحديد، ونحو ذلك.
- 2. وقسم للإنسان سبيل إلى معرفته، وهو الذي دلالته على المراد غير واضحة، أو كان يحتمل بحسب وضع اللغة العربية أوجهًا عديدة، واحتيج لمعرفة المعنى المراد منه لنظر أهل النظر والفهم الذين لهم دراية بالنصوص ومعانيها ولهم دراية بلغة العرب فلا تخفى عليهم المعاني، إذ ليس لكل إنسان يقرأ القرءان أن يُفسّره، وهو المشار إليه بقوله ﷺ داعيًا لابن عبّاس
رضي الله عنهما: «اللّهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» رواه أحمد.
ثم إن أهل السنة في تأويل الآيات المتشابهات على مسلكين:
الأول: مسلك السلف أي أكثرهم وهم أهل القرون الثلاثة الأولى، فإنهم يؤوّلون الآيات المتشابهات تأويلًا إجماليًّا بالإيمان بها واعتقاد أن لها معاني تليق بجلال الله وعظمته ليست من صفات المخلوقين كقوله تعالى في سورة طه: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)﴾ بأن يقولوا استوى بلا كيف أو استواؤه تعالى على ما يليق به من غير أن يكون كالجلوس والاستقرار ممّا فيه إثبات المكان والجوارح والطول والعرض والعمق والمساحة مما هو من صفات الأجسام والمحدثات، بل ردّوها إلى الآيات المحكمات كقوله تعالى في سورة الشورى/11: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وتركوا تعيين معنى معين لها مع نفي تشبيه الله بخلقه. وهو كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «آمنتُ بما جاء عن الله على مراد الله وبما جاء عن رسول الله ﷺ على مراد
رسول الله» ومراده بهذا نفي الأوهام والظنون من المعاني الحسّيّة والجسميّة التي لا تجوز في حق الله تعالى.
والمسلك الثاني: مسلك الخلف وبعض السلف كالإمام أحمد والبخاري وغيرهما، فإنهما من السلف ومع ذلك أوّلا تأويلًا تفصيليًّا بتعيين معانٍ للآيات المتشابهات مما تقتضيه لغة العرب، وكلا المسلكين لا يحملانها على ظواهرها، فالسلف والخلف متفقان على عدم الحمل على الظاهر.
وبالمناسبة نورد بعض الآيات والأحاديث المتشابهة ونذكر تفسيرها الذي يوافق الآيات المحكمة،
كقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ سورة فاطر/10، أي أن الكلم الطيّب كلا إله إلا الله يصعد إلى محل كرامة الله وهو السماء، فالمقصود بكلمة «إليه» أي إلى محلّ كرامته وهو السماء، فهذا مطابقٌ ومنسجمٌ مع الآية المحكمة: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وهو تفسير صحيح ليس فيه تشبيه للّه بخلقه. وليُعلَم أن الله تعالى خالق الروح والجسد فليس روحًا ولا جسدًا، وأما إضافة الله تعالى روح عيسى إلى نفسه فهو على معنى المِلك والتشريف، لا على معنى الجزئية. فقوله تعالى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ سورة التحريم/12، معناه أن الله أمر الملَكَ جبريل أن ينفخ في مريم رُوحَ عيسى التي هي مُشرّفة عند الله، لأن الأرواح قسمان: أرواحٌ مشرّفةٌ وأرواحٌ خبيثةٌ، وأرواح الأنبياء أرواحٌ مُشرّفة كريمة عند الله، فإضافة روح عيسى وروح آدم إلى الله تعالى هي إضافة تشريف. ويقال مثل ذلك في قوله تعالى لإبراهيم وإسماعيل: ﴿ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ﴾ سورة البقرة/125، فالكعبة هي مكانٌ مشرّفٌ عند الله. أما قوله تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾ سورة النحل/50، فالمقصود به فوقيّة القهر دون المكان والجهة.
وأما قوله تعالى في توبيخ إبليسَ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ سورة ص/75، فيجوز أن يقال المراد باليدَين العِنَايَةُ والحِفْظُ. ومعنى قوله تعالى: ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)﴾ سورة الفجر/22، جاء أمرُ ربّك أي أثرٌ من آثار قدرته حيث تظهر أهوالٌ عظيمة يوم القيامة.
ويُقال في قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ سورة الحديد/4، إنّ الله عَالِمٌ بكم أينما كنتم.
وأمَّا قولُهُ تعالى: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ سورة الجاثية/34، فقد ذُكرَ على وجه المقابلة ومعناه تركناكم من رحمتنا كما تركتم طاعة الله في الدنيا بترككم الإيمان به.
وليُتنبّه أنّه لا يجوز أن يُؤخذَ من قول الله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً﴾ سورة البقرة/26، جواز تسميةِ الله بالمستحيي، بل هذا مستحيلٌ على الله، ومعنى الآية أننا لا نترك استحياءً كما يترُكُ البشرُ الشىءَ استحياءً، معناه أنَّ الله لا يُحِبُّ تركَ إظهارِ الحَقّ فلا يتركُهُ للاستحياءِ كما يفعلُ الخلقُ. وأما قولُهُ تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ سورة النور/35، فمعناه أن الله هادي أهل السماوات والمؤمنين من أهل الأرض لنور الإيمان، فاللّه تعالى ليس نورًا بمعنى الضوء بل هو الذي خلق النور، قال تعالى في سورة الأنعام/1: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أي خلق الظلمات والنور فكيف يمكن أن يكون ضوءًا كخلقه؟! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
فلا يجوز اعتقاد أنَّ الله ذو لونٍ أو ذو شكلٍ. وأمّا ما ورد في الحديث أن الله جميلٌ فليس معناه جميل الشكل وإنما معناه جميل الصفات أو أنه مُحْسِن. وأما النزول المذكور في الحديث الذي رواه البخاري: «ينزلُ ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا» فأحسنُ ما يقال في ذلك هو نزولُ الملَكِ بأمر الله فينادي مُبلّغًا عن الله تلك الكلمات: «من ذا الذي يدعوني فأستجيبَ له، من ذا الذي يستغفرني فأغفرَ له من الذي يسألني فأُعطيَهُ» فيمكثُ الملَكُ في السماء الدنيا من الثلث الأخير إلى الفجر.
والله تعالى غنيٌّ عن العالمين أي مستغنٍ عن كلّ ما سواه أزلًا وأبدًا وتفتقر إليه كلّ الكائنات. فلا يحتاج الله تعالى إلى مكانٍ يقوم به أو يحلّ به أو إلى جهةٍ، لأنه تعالى موجود قبل المكان بلا مكان، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه. قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان».
فليس محور الاعتقاد على الوهم بل على ما يقتضيه العقل الصحيح السليم الذي هو شاهدٌ للشرع، ذلك لأنه لو كان للّه تعالى مكانٌ لكان له مقدارٌ، أبعادٌ وحدودٌ، ومن كان كذلك كان مُحْدَثًا أي مخلوقًا ولم يكن إلهًا. وكما صحّ وجود الله تعالى بلا مكان قبل خلق الأماكن والجهات، يصح وجوده بعد خلق الأماكن بلا مكان. وهذا لا يكون نفيًا لوجوده تعالى. قال الإمام ذو النون المصري: «مهما تصورت ببالك فاللّه بخلاف ذلك».
وفي الختام نذكر قول الإمام أحمد الرفاعي الكبير رضي الله عنه وأرضاه: «صونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة فإن ذلك من أصول الكفر». فكلّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يجتمعون على ثوابت في العقيدة لا يختلفون فيها، ومن هذه الثوابت الإيمان بكل ما جاء في القرءان والسنة النّبويّة الصحيحة، مع تأويل النصوص التي ظاهرها تشبيه الله بخلقه، لأن ثَمَّ أشياء لا بدَّ من تأويلها لا خلاف بين العقلاء فيه إلا الملاحدة والمجسمة الذين قصدهم التعطيل للشرائع وتشبيه الله بخلقه.
نسأل الله تعالى أن يثبّتنا على عقيدة أهل السنة والجماعة، وأن يوفقنا لما يحبّه ويرضاه إنه على ما يشاء قدير، وبعباده لطيف خبير، وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.