في مثل هذه الأيام من كلّ عام تثور في نفوس المسلمين نوازع الشوق للسفر إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة لأداء فريضة الحجّ المباركة. حيث يجتمعون على صعيد واحد في بيت شريف في نسبته، عتيق في موضعه… إنه البيت العتيق موئل كل مستجير وعائذ، وهو أول بيت مشرّف وضع للناس. شاء الله له أن يكون قبلة الصلاة للمسلمين عامة من كافة بقاع الأرض، حيث تتطلّع إليه عيونهم، وتحن إليه أفئدتهم يفِدون إليه من كل حدب وصَوْب، في جموع كبيرة، على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأعراقهم وأوطانهم، وتباين ألسنتهم ليقيموا شعائر الله… يؤدّون مناسكهم، ويطوفون بالبيت العتيق، ويتشاورون في أمور دينهم ودنياهم.
فالمتأمل في عظمة هذه الفريضة يدرك أن الله تبارك وتعالى جعل فيها أسرارًا جليلة، وحِكَمًا متعددة يطمئن لها أصحاب القلوب البصيرة وأهل العقول المستنيرة.
وحلول موسم الحجّ يستدعي الذكريات العطرة، سيرة نبيّ الهدى والرحمة وصحابته الأبرار، وأحبابه وأهل بيته الأطهار، والمهاجرين والأنصار، في زهدهم وتقشّفهم وحُسْن خُلُقهم وما يتحلّون به من صفات الصبر والقناعة والإيثار. وأداء العبادات في الإسلام كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ فيها حِكَمٌ عظيمة، فضلًا عن كون هذه الفريضة سبيلًا ليعبّر العبد عن شكره لخالقه ورازقه.
وفي الحجّ تجتمع حِكَمٌ كثيرة ففيه من حِكمة الصيام الصبر على تحمّل المشقات، ومن الصلاة الطاعة والتذلل ومناجاة المولى، ومن الزكاة معنى بذل المال في سبيل الله. وفيه تذكّر سُنة نبيّ الله إبراهيم عليه السلام في الانصياع لأوامر الله، والالتزام بطاعته، وفيه ذبح الهَدْي، والتوسعة على الفقراء.
وقبل أداء الشعائر يبدأ الحاج بالتوبة من كل المعاصي، وردّ المظالم، وقضاء الدين، وإعداد نفقته، ويرد الودائع، ويحرص أن يكون مال حجّه حلالًا، ويلتمس صحبة صالحة تعينه على الخير والطاعة. ومن مآثر فريضة الحجّ أنها تعمل على توثيق عُرى التعاون والأخوّة بين المسلمين، فالحجّ يعطي للمسلمين شعورًا قويًّا جميلًا بالوحدة والتماسك، وكأنهم جميعًا على قلب رجل واحد في هذا الصعيد الطاهر.
وما أحوجنا في هذه الأيام إلى تآلف القلوب على الحق، فهنا يكمن سرّ القوة في المجتمع الإسلامي وحمايته من الأطماع العدوانية التي تتربص به، ومن شرور الأعداء الذين يعملون على زرع التفكك والتفرقة بين المسلمين. ونحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى الأخوّة والاعتصام بحبل الله الوثيق. وإن من أكبر منافع الحجّ العامة تعارف المسلمين فيما بينهم في هذا اللقاء الجامع الذي يتكرر كل عام. فمن نِعَم الله تبارك وتعالى على عباده المؤمنين أن شرع لهم من العبادات ما يتعارفون فيه ويتآلفون ويتعاضدون. ففي أداء الصلوات الخمس جماعة في المساجد يتعارف المؤمنون، ويتفقد بعضهم أحوال بعض، فهم يلتقون خمس مرات في اليوم، فتتوثق الصّلات بينهم. ثم شرع لهم الالتقاء على مستوى أكبر في صلاة الجمعة والعيدين. ثم شرع لهم اللقاء في أم القرى في بيت الله الحرام، وعلى جبل عرفة في موقف واحد وعلى صعيد واحد حيث يجتمع شملهم ويتشاورون فيما أهمّهم، وكم من مرة وعلى مدى أربعة عشر قرنًا مفعمة بالأحداث كان موسم الحجّ منطلقًا لدعوة عظيمة لنصرة شعب مسلم لحق به الظلم أو لإنقاذه من زلزال أو كارثة حلّت به.
والحجّ فرصة عظيمة لتبادل المعارف والخيرات إذا صفت النفوس وحسُنت النيّات.
فدعوتنا للمؤمنين هي بأن يلتقوا على الحق وينهضوا بأمّتهم بما لديهم من علوم وخبرات وكفاءات للاستفادة منها في كافة المجالات. لنشارك في ركب الحضارة والتطور في ظل تعاليمنا السمحة فنحن إذا فهمنا تعاليم الدين فهمًا صافيًا صحيحًا وطبّقنا أصبحنا من أهل الثقة والمعرفة. ولننبذ الفرقة والاختلاف والتخلف والتطرف، ولتكن تقوى الله قوتنا. ونحن مدعوّون لاغتنام هذه الفرصة الثمينة لجمع الصفوف وتوحيد الكلمة وتطهير القلوب من الأحقاد والأدران التي غرسها أعداء هذا الدين ليوقعوا بين أبناء الأمّة الواحدة الفُرقة والشقاق والضياع.
فلتكن أيامنا كلّها كيوم عرفة حيث تظهر فيه الوحدة الإسلامية، فربّنا واحد وديننا واحد وقرءاننا واحد، فلماذا نتفرّق؟ ففي وحدتنا على منهاج أهل الحق نقيم للعدل ميزانه، ونضيء للحق منارات تهدي سبيل المترددين والحائرين…
اللّهمّ اجعلنا من المعتصمين بحبلك المتين… الرافعين راية حبيبك المصطفى فوق كلّ راية…وتوفّنا على هديه وأنت عنّا راضٍ… آمين.