الحمد للّه المنفرد بالألوهية، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد خير البرية. 

وبعدُ فإنّ الماضي صفحات، والتاريخ عبر وعظات، وفي صفحات الماضي وعبر التاريخ المجيد السراج الذي يكشف للمستبصر الرؤية ويهديه سواء السبيل. وهجرة الرسول ﷺ المباركة هي واحدة من تلك العبر والعظات. والأمّة الإسلامية تمرّ اليوم بمرحلة من أدق مراحل تاريخها وهي لذلك أحوج ما تكون للاستفادة من دروس الهجرة المباركة وعِبَرها.

لقد كانت الهجرة المباركة إيذانًا بأن صولة الباطل مهما عظُمت قوته ومهما بلغت فمصيرها إلى الزوال ونهايتها إلى الفشل والبوار، وإيذانًا بأن الحق لا بد له من يوم يحطم فيه الأغلال وتعلو فيه رايته وترتفع كلمته، وكيف لا والله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين بالنصر المبين وجعل لهم من الشدة فرجًا ومن العسر يسرًا ومن الضيق سعة، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51) سورة غافر.

ولئن كانت الهجرة المباركة حركة نوعية في التاريخ ونقطة تحوّل في مسيرة الدعوة الإسلامية إلا أنه سبق تلك الهجرة الجسدية هجرة روحية عظيمة تمثلت بقبول المهتدين للدعوة المحمّدية ودخولهم في دين الله وثبوتهم فيه على الرغم من الاضطهاد والتنكيل وكافة المحاولات لصرفهم عن دعوة الحق، فكانت هذه الهجرة من الضلال إلى الإيمان ومن ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام، ثم جاءت هجرة الصحابة إلى الحبشة ثم إلى المدينة لتشكل درجة عالية من العطاء والاستعداد لبذل كل شىء من مال وأهل وأرض في سبيل الله.

وجاءت هجرة الرسول ﷺ بأمر من ربّه عزّ وجلّ لتعلن نهاية عهد الاضطهاد والاستبداد وبداية فجر مشرق وعهد مجيد. ومن هناك من يثرب انبثق نور الدعوة قويًّا وضّاء فبدّد الظلم وجاز ما اعترضه من عقبات. وانطلقت كلمة الحق تحملها القوافل والركبان وتبشّر بها أصوات الدعاة إلى الصلاة في كل أذان حتى أتمّ الله على المسلمين النعمة ودفع عنهم كل محنة ودخل الناس في دين الله أفواجًا وأذن مؤذن الحق في إباء وعزة: الله أكبر الله أكبر جاء الحق وزهق الباطل.

لم تكن هجرة الرسول ﷺ هربًا من المشركين ولا يأسًا من واقع الحال ولم تكن هجرته ﷺ حبًّا للشهرة والجاه والسلطان فقد ذهب إليه أشراف مكة وساداتها وقالوا له: «إن كنت تريد بما جئت به من هذا القول مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا وإن كنت تريد ملكًا ملّكناك علينا»، ولكن النّبيّ العظيم ﷺ أسمى وأشرف من أن يكون مقصوده الدنيا والجاه والسلطان. ولم تكن هجرته التماسًا للهدوء وطلبًا للراحة فهو يعلم يقينًا أنها دعوة حق ورسالة هدى لا بدّ أن يُؤديها كما أمره الله وهو لهذا يقول لعمّه أبي طالب حين أتاه يطلب منه الكف عن التعرض لقومه وما يعبدون «يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركتُ هذا الأمر حتى يُظهره الله تعالى أو أهلك في طلبه» رواه البيهقي في دلائل النبوّة.

لقد كانت الهجرة في سبيل الله لإقامة صروح العدل والحق وبناء ركيزةِ الإيمان ونشر  التوحيد في كافة أرجاء الجزيرة العربية بل في كافة أرجاء المعمورة. لقد كانت الهجرة عملية جمع للقوى المؤمنة بالرسالة السماوية وتوحيد للطاقات التي استطاعت في ما بعد بفضل الله تحطيم قوى الكفر والإشراك.