الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين. كانت هجرة رسول الله سيّدنا محمّد بن عبد الله من مكة إلى المدينة حدثًا هامًّا من الأحداث الحاسمة في تاريخ الدعوة الإسلامية، فيها انتهى عهد وابتدأ عهد، وصارت طيبة «المدينة المنورة» مهاجر النّبيّ ومثواه الأخير حيث دفن جسده الشريف في أرضها. 

لقد عادى رجالُ القبائل، خصوصًا قريش في مكة، نبيَّ الله، واجتمعوا على إيذائه وتعذيب أصحابه والوقوف بوجه دعوته ليفتنوا الذين آمنوا عن دينهم، فأشار الرسول ﷺ على أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة فهاجر عشرة رجال وأربع نسوة، ثم زاد عددهم حتى بلغ ثلاثة وثمانين رجلًا وسبع عشرة امرأة سوى الصبيان، هاجروا مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام.

وقد أحسن النجاشي ملك الحبشة استقبالهم وأكرمهم فاطمأنوا في جواره وأمنوا. وحاولت قريش التقرب إلى النجاشي بالهدايا النفيسة لاستردادهم والإيقاع بينهم وبين النجاشي، ولكن النجاشي سمع منهم آيات بيّنات من القرءان في حق نبيّ الله عيسى عليه السلام وأمه الصدّيقة مريم فصدّق بدعوتهم وزاد من إكرامهم وحمايتهم وباءت قريش بالخيبة والخسران المبين.

لقد كان أذى المشركين للمسلمين عجيبًا، ولكن صبر المسلمين على الأذى كان أعجب، فقد ثبّتهم الله فازداد عددهم وقويت شوكتهم حتى خشي المشركون بأْسَهم، فأجمعوا على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب حتى يسلّموا إليهم الرسول ليقتلوه، ولكن أهل بيته نصروه برغم ما وجدوه من الشدائد والأهوال.

ثم فقد النّبيّ الكريم نصيرين، وذلك حين توفي عمه أبو طالب، ثم زوجته ﷺ خديجة، فانطلق إلى الطائف ولكنه لم يجد من أهلها أذنًا صاغية وآذوه بأقوالهم وأفعالهم فعاد إلى مكة. وكان يقصد في نشر الدعوة الموسم حيث تأتي القبائل إلى مكة، فوجدت دعوته صدى طيّبًا بين أهل يثرب الأوس والخزرج الذين عرفوا من اليهود وَصْفَه بأنه نبيّ آخر الزمان، فآمن منهم ستة كانوا سبب انتشار الدعوة في يثرب بعد ذلك. لقد وجدوا في دعوة التوحيد وتعاليم النّبيّ ﷺ ما يُوحّد كلمتهم ويجمع شتات شملهم ويقضي على ما بينهم من تنازع وبغضاء، ووجدوا في شخصية الرسول ﷺ ضالتهم المنشودة فاجتمعوا تحت لوائه. لقد دعاهم إلى التوحيد الخالص ونهاهم عن عبادة الأوثان، وعلّمهم الإيمان برسل الله وكتبه المنزّلة وملائكته المقربين وبالبعث والجزاء، كما دعاهم إلى مكارم الأخلاق وترك الخبائث من الأعمال والسيئات من العادات وهذا مصداق قوله جلّ وعلا في سورة الجمعة: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (2).

وهكذا انتشر الإسلام في المدينة، ثم عندما سمعت قريش بإسلام الأنصار ومبايعتهم له ﷺ، جزعوا وفزعوا أشد الفزع ووجدوا في ذلك خطرًا عليهم، حيث يزول سلطانهم وتذهب ريحهم وتتعرض تجارتهم إلى الشام غادية ورائحة لخسران عظيم، فمكروا مكرهم وتآمروا على قتل النّبيّ ﷺ.

اجتمع المشركون في دار الندوة وهي دار قصي ابن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها ليتشاوروا في ما يصنعون في أمر رسول الله ﷺ حين خافوه، غدوا في اليوم الذي تواعدوا له وكان ذلك اليوم يُسمّى يوم الزحمة، فاعترضهم إبليس لعنه الله في هيئة شيخ نجدي كبير عليه كساء غليظ مربع، وقيل كساء من صوف، فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفًا على بابها قالوا: مَنِ الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي تواعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا، قالوا: أجل فادخل فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم وإننا والله ما نأمنه على الوثوب علينا  بمن قد اتبعه من غيرنا فأجمِعوا فيه رأيًا، قال: فتشاوروا، ثمّ قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابًا ثمّ تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهير والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم.

قال إبليس: لا والله ما هذا لكم برأي والله لو حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي فانظروا إلى غيره، ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه.
قال الشيخ النجدي -أي إبليس لعنه الله-: والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حُسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمِنتُ أن يحل على حي من العرب فيغلب بذلك عليهم من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتًى شابًّا نسيبًا وسيطًا ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل جميعًا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا منا بالعقل (أي الدية) فعقلناه لهم، قال الشيخ النجدي: القول ما قال هذا الرجل، هذا الرأي ولا رأي غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل رسول الله ﷺ فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه فلما رأى رسول الله ﷺ مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: «نم على فراشي وتَسَجَّ (أي تغطَّ) ببُردي هذا الأخضر الحضرمي فإنه لا يخلص إليك شىء تكرهه منهم» رواه أبو نعيم الأصبهاني، وكان رسول الله ﷺ ينام في بُرْده ذلك إذا نام.

وذكر أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة أن المشركين اجتمعوا وفيهم أبو جهل بن هشام فقال وهم على بابه: إن محمّدًا يزعم أنكم إن بايعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثمّ بُعثتم من بعد موتكم فجُعِلَت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم فجُعلت لكم نارٌ تُحرَقون فيها، فخرج عليهم رسول الله ﷺ فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: «نعم أنا أقول ذلك وأنت أحدهم».

وأخذ الله تبارك وتعالى أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو قوله تعالى: ﴿يس (1) وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4)إلى قوله:
﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9)حتى فرغ
رسول الله ﷺ من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آتٍ ممن لم يكن معهم فقال: وما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمّدًا قال: قد خيّبكم الله، قد والله خرج عليكم محمّد ثم ما ترك منكم رجلًا إلا وقد وضع على رأسه ترابًا وانطلق لحاجته أفما ترون ما بكم، فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطّلعون فيرون عليًّا على الفراش متسجيًا ببرد رسول الله ﷺ فيقولون: والله إن هذا لمحمّدٌ نائمًا عليه برده، فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدّثنا، فكان مما أنزل الله من القرءان في ذلك: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)سورة الأنفال.

ومن المعلوم أن المكر من العباد هو الخبث والخداع لإيصال الضرر إلى الغير، أما مكر الله
فهو مجازاة الماكرين على مكرهم، إذ إنّ الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات المخلوقين ولا يشبهه شىء ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)سورة الشورى.

ما جرى في الغار

روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: استأذن أبو بكر في الخروج من مكة حين اشتد الأذى عليه فقال له رسول الله ﷺ: «أقم» فقال: يا رسول الله أتطمع أن يؤذن لك؟ فقال: «إني لأرجو ذلك» فانتظره أبو بكر، ثم أتى رسول الله ﷺ إلى أبي بكر ذات يوم ظهرًا فناداه فقال: «أَخـرِجْ مَن عِـندكَ» فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، قال: «أشعرتَ أنه قد أُذن لي في الخروج» فقال: الصحبة يا رسول الله، فقال النّبيّ ﷺ: «الصحبة» قال: يا رسول الله عندي ناقتان قد أعددتهما للخروج فأعطى النّبيّ ﷺ إحداهما فركبها فانطلقا حتى أتيا الغار وهو بثور فتواريا فيه وكان عامر بن فهيرة غلامًا لعبد الله
ابن الطفيل وكانت لأبي بكر منحة (أي غنم) فكان يروح بها ويغدو عليها ويصبح فيدلج إليهما ثم يسرح فلا يفطن له أحد من الرعاء فلما خرجا خرج معهما يعقبانه حتى قدما المدينة.

روى البيهقي في دلائل النبوة عن عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ خرج ليلًا فتبعه أبو بكر الصديق، فجعل يمشي مرة أمامه، ومرة خلفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن يساره، فقال له رسول الله ﷺ: «ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا من فعلك» قال: يا رسول الله، أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك.ولما وصلا فم الغار، قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله، فإن كان فيه شىء نزل بي قبلك، فدخل فلم ير شيئًا، ثم دخل رسول الله، وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع، فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شىء يؤذي رسول الله ﷺ، فألقمه قدمه فجعلت الحيات والأفاعي يضربنه ويلسعنه، وجعلت دموعه تنحدر خوفًا على رسول الله ﷺ.

وروى البيهقي عن النّبيّ ﷺ أنّ الله عزّ وجلّ أنبت شجرة مقابل النّبيّ ﷺ فسترته،
وأمر الله تعالى العنكبوت فنسجت مقابل
رسول الله ﷺ فسترته، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل، بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، حتى إذا كانوا من النّبيّ ﷺ بقدر أربعين ذراعًا، فجعل رجل منهم ينظر في الغار فرأى حمامتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه، فقالوا له: ما لك لم تنظر في الغار؟ فقال: رأيت حمامتين بفم الغار، فعلمت أنه ليس فيه أحد.

وبعد أن مكث رسول الله ﷺ وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غار ثور ثلاث ليال، ثم ارتحلا ومعهما عامر بن فهيرة يخدمهما، واستأجرا عبد الله بن أريقط يدلهما على الطريق، فأُخِذوا نحو طريق الساحل أسفل من عسفان، والله سبحانه شاغل عدوهم عن اتباع آثارهم من تلك الجهة.