الهجرة… الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.
وبعد، فإنه لما خرج النّبيّ ﷺ من مكة مهاجرًا إلى يثرب ومعه الصدّيق رضي الله عنه، كان كفّار قريش قد أرسلوا مَن يتعقّبه ويدلّهم عليه، وكان منهم سراقة بن مالك الذي انفرد عن القوم وصار يتعقب وينظر مليًّا علّه يجد أثرًا يدلّه على مكان رسول الله ﷺ فيقتله وينال المكافأة. فحثَّ في الطلب حتى أدركهما فصار سيّدنا أبو بكر يكثر التلفّت والمصطفى ﷺ يقرأ ولا يلتفت، فلما اقترب منهما سراقة قال ﷺ: «اللّهمّ اكفِناه بما شئتَ» رواه أحمد.
عندها انخسفت الأرض فغاصت قوائم فرس سراقة في الأرض ووقع عنها وطلب الأمان من رسول الله ﷺ فدعا له النبيّ فانطلق فرس سراقة وجاء إلى المصطفى وأخبره عمّا يريده كفّار قريش وأنهم قد جعلوا فيه الدية، فطلب منه ﷺ أن يخفيَ هذا الأمر عنهم، فعاد سراقة فوجد الكفار فقال لهم: ارجعوا فقد بحثتُ لكم في الناحية فلم أجده.
ويقال إن سراقة سأل النبيّ ﷺ أن يكتب له كتاب أَمْن فأمر ﷺ عامر بن فهيرة فكتب له في رقعة من أدم (جلد)، وإن سراقة وافاه به يوم فتح مكة، وما وقع لسراقة هو علم من أعلام النبوة حيث أخبره المصطفى بما وقع قبل أن يقع وهو قول المصطفى: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى» ذكره السيوطي في الخصائص، فلبسهما أيام عمر.
وروى الحاكم أنهم بعد ذلك مروا على خيمة أم معبد، واسمها عاتكة بنت خالد الخزاعية، وهي على طريقهم، محتبية بفناء خيمتها تسقي المارة من الماء واللبن، ونظر النّبيّ ﷺ عندها شاة، قال «ما هذه الشاة يا أم معبد»؟ قالت: شاة أضر الجهد بها وما بها قوى تشتد بها حتى تلحق الغنم وترعى معهم، قال: «هل بها من لبن»؟ قالت: هي أجهد من ذلك. قال: «أتأذنين لي أن أحلبها؟» قالت: بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها فدعا رسول الله ﷺ بها فمسح بيده ضرعها وسمّى الله تعالى ودعا، فحلب ما قد كفاهم. ثم حلب بعد ذلك إناء ثانيًا، وترك ذلك الإناء عندها مملوءًا واستمرت تلك البركة فيها.
ومن بركات الهجرة أن امرأة ممن سبقت رسول الله ﷺ بالهجرة مات ولدها معها في الطريق إلى المدينة. أصابه مرض فمات فتملكها الجزع فقالت: «اللّهمّ إنك تعلم أني ما هاجرت إلا ابتغاء مرضاتك ومحبة فيك وفي نبيّك فلا تشمّت بي الأعداء»، فتحرك ولدها من تحت الكفن، وقام في الحال، أحياه الله تعالى، والله على كل شىء قدير، قالت أمه: «طعم وطعمنا» وبقي حيًّا إلى خلافة سيّدنا عمر رضي الله عنه.
وعندما كان المؤمنون في المدينة المنورة ينتظرون وصول الحبيب المصطفى ﷺ كانوا يتوافدون إلى مشارف المدينة من ناحية طريق مكة، وكان بعضهم يتسلق الأشجار وينظر إلى بُعد عَلّه يرى أثرًا لقدوم الحبيب المصطفى ﷺ وتمضي الأيام والساعات ويعودون حزينين.
وذات يوم والناس في انتظار بلهف وشوق وقد انتصف النهار واشتد الحر رجعوا جماعة بعد جماعة وإذ برجل ينادي بأعلى صوته: «ها قد جاء من تنتظرون يا أهل المدينة»، فتكرّ الجموع عائدة لاستقبال الحبيب المحبوب والحب يسبقها ولسان حالها يقول: «طلع البدر علينا من ثنيات الوداع».
هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة المنورة في شهر صفر وليس في الأول من شهر المحرم كما هو شائع، واستقبله المؤمنون بالفرح واستبشر الناس بقدوم رسول الله ﷺ، وسمّى الرسول الأعظم ﷺ يثرب المدينة المنورة، وآخى فيها بين المهاجرين والأنصار، وبنى مسجده وصار المسلمون على قلب رجل واحد لا يفرق بينهم طمع الدنيا ولا يباعد بينهم حسد ولا ضغينة، مثلهم كمثل البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا، ومثلهم في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.
روى البيهقي في الدلائل أن رسول الله ﷺ قدم المدينة يوم الاثنين، فمنهم من يقول: لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول، والحديث المعروف أنه قدم لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين، فأقام رسول الله في بني عمرو بن عوف (في ما يُقال) يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، ثم سار يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها بمن معه، وقيل إنه أقام أكثر من ذلك فاعترضه عتبان بن مالك في رجال من بني سالم وبني الحبلى فقالوا: يا رسول الله أقم فينا في العزّ والثروة والعدد والقوة وكانوا كذلك، ورسول الله على ناقته فقال: «خلّوا سبيلَها فإنها مأمورة»، ثم مرّ ببني ساعدة فاعترضه سعد بن عبادة والمنذر ابن عمرو وأبو دجانة فدعوه إلى المنزل فقال: «خلّوا سبيلها فإنها مأمورة»، ثم مرّ ببني بياضة فعرض له فروة بن عمرو وزياد بن لبيد فدعوه إلى المنزل عليهم فقال: «خلّوا سبيلها فإنها مأمورة»، ثم مرّ على بني النجار فقال له صرمة بن أبي أنس وأبو سليط في رجال منهم: أقم عندنا يا
رسول الله فنحن أخوالك وأقرب الأنصار بك رحمًا، فقال: «خلّوا سبيلها فإنها مأمورة»، فلما انتهت إلى مكان مسجده بالمدينة وهو مربد (مكان تحبس فيه الإبل) بركت فالتفتت يمينًا وشمالًا ثم وثبت فمضت غير كثير ورسول الله واضعٌ لها زمامها لا يحركها فوقفت فنظرت ثم التفتت إلى مبركها الأول فأقبلت حتى بركت فيه واطمأنت فنزل ﷺ عنها واحتمل أبو أيوب رحله فأدخله مسكنه، وسأل رسول الله عن المربد لمن هو فأُخبر أنه لغلامين يتيمين من بني النجار كانا في حجر معاذ بن عفراء، فقال معاذ بن عفراء: يا رسول الله سأرضيهما منه، فدفع لهما ثمنه فاتخذه النّبيّ ﷺ مسجدًا.
قصة أسعد الحميري
وأول بيت نزل فيه ﷺ في المدينة المنورة بيت خالد بن زيد أبي أيوب الأنصاري، وخالد ابن زيد كان ممن حفظ هذه الأبيات الآتية التي قالها أسعد الحميري الذي كان يحكم بلاد اليمن قبل بعثة النّبيّ ﷺ بستمائة عام. صُفّت له الجياد من اليمن إلى بلاد الشام فمرّ بالمدينة المنورة التي كانت تسمّى يثرب ليكسر أهلها فاجتمع به حبران من الأحبار المسلمين اللذان كانا على الإسلام دين موسى عليه السلام وقرآ في التوراة أنها أي المدينة هي مُهاجَر نبيّ آخر الزمان أحمد.
وروى أهل السير أن زيد بن ثابت قال: وأول هدية دخلت بها أنا قصعة مثرود فيها خبز وسمن ولبن فقلتُ: أرسلتْ بها أمي فقال ﷺ:
«بارك الله فيك»، ودعا صحبه فأكلوا فلم أرم الباب حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة بثريد وعراق لحم، وما كان من ليلة إلا وعلى باب المصطفى الثلاثة والأربعة يحملون طعامًا كثيرًا، ثم صار سعد بن عبادة يرسل إليه كل يوم قصعة، فأقام النبيّ في دار أبي أيوب حتى ابتنى مسجده الرحيب (أي الواسع) بعد شرائه أرضه من قسيم مالكيه، ثم أمر بالنخل الذي فيه والغرقد فقطع، وباللبن فضرب، وأسس المسجد، وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وفي ذينك الجانبين مثل ذلك فهو مربع، وقيل كان أقل من مائة، وجعل الأساس نحو ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللَّبِن. وقد عمل فيه رسول الله ﷺ ليرغّب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا فيه.
وقال بعضهم: «لا عيش إلا عيش الآخرة… اللّهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة». ثم دخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه باللَّبِن (الأحجار) فقال: يا رسول الله قتلوني يحملون علي ما لا يحملون. قالت أم سلمة: فرأيت رسول الله ﷺ ينفض وفرته بيده وكان (أي عمار) رجلًا جعدًا وهو يقول: «ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنما تقتلك الفئة الباغية» فقتل بصفين.
وجعل رسول الله ﷺ للمسجد ثلاثة أبواب بابًا في مؤخره، وبابًا يقال له باب الرحمة وهو الذي يسمى باب عاتكة والباب الثالث الذي يدخل منه المصطفى وهو الذي يلي دار عثمان، وجعل عمده الجذوع وسقفه الجريد وبنى بيوته بجنبه باللَّبِن.