الهجرة … الحمدُ للّهِ الذي نصرَ عبدَه وأعزَّ جُندَه وهزمَ الأحزابَ وحدَه والصلاةُ والسلامُ على سيّدِنا محمدٍ مَن لا نبيَّ بعدَه وعلى آلِه وصَحْبِه ومَن بإحسانٍ تبِعَه.  

أما بعدُ فيقولُ اللهُ تعالى في القرآنِ الكريمِ: ﴿إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)﴾ سورة التوبة.

تكرُّ الأيامُ وتمضي الأعوامُ ويطولُ الزمانُ وتبقى هجرةُ خيرِ الخلقِ سيّدِنا محمدٍ ﷺ نورًا يشعُّ على مدى الدهرِ ولِواءً كريمًا يتمايلُ خفّاقًا مع نسائمِ العزّ والمجدِ التليدِ ودرسًا عظيمًا تستمدُّ منه الأجيالُ معانيَ الصبرِ والإخلاصِ والبذلِ في مناصرةِ الحقّ والمبادئِ الساميةِ والعملِ على رفعِ الظلمِ والحيفِ، وتلك كانتْ دعوةَ كلّ أنبياءِ اللهِ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم أجمعين. فلم يأتِ خاتمُ الأنبياءِ محمدٌ ﷺ بعقيدةٍ جديدةٍ أبدًا ومخطِئٌ مَن ظنَّ ذلك بل كانتْ دعوتُه عليهِ الصلاةُ والسلامُ امتدادًا وتجديدًا لدعوةِ السيّدِ المسيحِ عيسى ابنِ مريمَ عليهِ السلام الذي كانت دعوته كذلك تجديدًا لدعوة كليم الله موسى عليه السلام الذي كانت دعوتُه أيضًا امتدادًا لدعوةِ مَن قبلَه مِن الأنبياءِ الكرام إلى أول الأنبياء وأبي البشر آدمَ عليه السلام.

لقد كانتِ الهجرةُ المباركةُ عملًا عظيمًا جدًّا لترسيخِ وتثبيتِ دعوةِ الأنبياءِ الكرامِ الذين أرسلَهم اللهُ تعالى لهدايةِ الناسِ وختمَهم بإمامِ المرسلينَ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الهاشمي ﷺ. دعا رسولُ اللهِ ﷺ الناسَ إلى الهدى وحرصَ حرصًا كبيرًا على إخراجِهم من الظلماتِ إلى النورِ وإقامتِهم على طريقِ الحقّ والاستقامةِ لِتَسْلَمَ لهم دنياهم وأُخراهم بالتزامِهم ما أمرَ اللهُ به وأرسلَ رُسَلَه بالدعوةِ إليه فكانَ عليه الصلاةُ والسلامُ يمشي في الطرقاتِ يقولُ للناسِ: «قولوا لا إله إلا الله تُفلِحوا» يدعوهم إلى التوحيدِ من غيرِ مللٍ ولا يأسٍ في الليلِ والنهارِ بثباتٍ تتضاءلُ أمامَه الجبالُ الراسياتُ فمرةً يقولُ الكفارُ: «نعبدُ إلهَك سنةً وتعبُدُ آلهتَنا سنةً فإن كانَ ما أنتَ عليه خيرًا نكونُ قد أصبْنَا منه حظًّا وإن كان ما نحن عليه خيرًا تكونُ قد أصبتَ منه حظًّا» فَيُوحَى إليه بسورةِ الكافرون ويقرأُ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)﴾ سورة الكافرون.

ومرةً يعرضونَ عليه المالَ والملكَ في تركِ ما يدعو إليهِ من الحقّ ويُكلّمُه في ذلك عمُّه أبو طالب فيُجيبُ ﷺ بكلامٍ بليغٍ ما زالَ صداه يتردّدُ عبرَ التاريخِ: «يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركتُ هذا الأمر حتى يُظهره الله تعالى أو أهلك في طلبه» رواه البيهقي.

فليستِ الدعوةُ إلى اللهِ محلَّ مساومةٍ على عرضٍ رخيصٍ من مَتاع الدنيا الزائلِ ولا سِلعةً يتفاوضُ عليها أهل الدنيا، وهذا ما لم يفهَمْه كفارُ قريش الذين طمسَ اللهُ على قلوبهم فراحوا يَكيدونَ له ولأصحابِه وإذا بهم يجتمِعونَ في دارِ الندوةِ ويستقرُّ قرارُهم على رأي عدوّ اللهِ أبي جهلٍ الذي قالَ: «أرى أن نأخذَ من كلّ قبيلةٍ فتًى جلدًا نُعطي كلَّ واحدٍ منهم سيفًا فيقومونَ على بابِه ويضربونَه إذا خرجَ ضربةَ رجلٍ واحدٍ فيتفرَّق دمُه في القبائلِ فيرضى بنو هاشمٍ بالديةِ لأنهم لا يقدرون على حربِ كلّ العربِ» وقاموا على بابِه يكيدونَ له. قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)﴾ سورة الأنفال. فالمكرُ منهم خُبثٌ وكيدٌ واحتيالٌ لإيذاءِ رسولِ اللهِ ﷺ وأمّا من الله فهو أن يردّ كيدَهم إلى نحورِهم.

وقد أُوحِيَ إلى النبيّ ﷺ بما يَكيدونَ فخرجَ من بين أظهُرِهم وهو يقرأ: ﴿يس (1) وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ (2)﴾ حتى بلغَ ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9)﴾سورة يس.

وألقى اللهُ عليهم النومَ فلم يَرَوْهُ وباتَ عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه في فراشِه يتسجّى ببُردٍ أخضرَ وتمَّت مشيئةُ ربّكَ لا رادَّ لما قضى ولا معقّب لما حكم.

وكانتْ هجرتُه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه تنفيذًا لأمرِ اللهِ تعالى ليس جُبنًا ولا هربًا من الواقعِ ولا طلبًا للراحةِ والاستجمامِ.

فقد دعاهُم إلى الحقّ فأبَوا إلا طغيانًا ونفورًا، فأذِنَ اللهُ له بالهجرةِ فهاجرَ تنفيذًا لأمرِ اللهِ تعالى يصحبُه الصدّيقُ أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه ولم يكنِ الطريقُ إلى المدينةِ مفروشًا بالوردِ ولا تمّتِ الهجرةُ بالسياراتِ المكيَّفةِ أو المصفَّحةِ، بل قد خرجَ عليه الصلاةُ والسلامُ ليلًا ونزلَ الغارَ مع صاحبِه فسخّرَ اللهُ حمامةً باضتْ على فمِ الغارِ وعنكبوتًا نسجَتْ، وإذا بكفارِ قريش يتتبَّعونَ الأثرَ فيَصِلونَ إلى الغارِ فيقولُ أبو بكرٍ رضِيَ اللهُ عنه: يا رسولَ الله لو أنّ أحدَهم نظرَ إلى قدمِه لأبصرَنا فيجيبُ الحبيبُ الكريمُ ﷺ: «لا تحزن إنّ اللهَ معنا» رواه البخاري، ومَن كانَ اللهُ معه بالنُّصرةِ والحفظِ والتأييدِ فمَن ذا الذي ينالُ منه وكفى باللّهِ حفيظًا ونصيرًا.

وأمر رسولُ اللهِ ﷺ أصحابَه بالهجرةِ فكانتِ الهجرةُ عند ذاك فرضًا على المستطيعِ مِنَ المسلمينَ، فهاجرَ الناسُ أفواجًا وفُرادى قَصْدُهم بلوغُ المدينةِ ليَلوذوا بِحِمى رسولِ اللهِ ﷺ وليأتمِروا بأمرِه تاركينَ الدنيا وراءَ ظهورِهم صارفين قلوبهم إلى الآخرة والبذل في سبيلِ الحقّ.

وكانتِ الهجرةُ مقدّمةً لِدَكّ صروح الظلمِ والباطلِ وحملِ مشاعلِ النورِ التي أضاءتْ غياهِبَ الجهلِ الذي طالما خيَّمَ على الدُّنيا قرونًا وقرونًا، جمعَ بسببها رسولُ اللهِ ﷺ القبائلَ على قلبِ رجلٍ واحدٍ فصاروا متّحِدين على الحقّ مشتركينَ في السعي لهدفٍ منشودٍ هو إخراجُ الناسِ من الظلماتِ إلى النورِ.

ونحنُ اليومَ وبعدَ مُضِيّ ما يزيدُ على ألفٍ وأربعمائةِ سنةٍ من هذا الحدثِ التاريخيّ الكبيرِ نتذكرُ الهجرةَ فنجدُ لذكراها حافزًا في النفسِ يدفعُ إلى استسهالِ القيامِ بصنوفِ البذل والصبرِ والثباتِ في سبيلِ الحقّ والتمسُّكِ بتعاليمِ الشريعةِ الغرّاءِ والاعتزازِ بعزّ الإسلامِ، وتغرسُ ذكراها في القلوبِ علوَّ الهِمَّةِ والترفّعَ عن الخُنوعِ والكسلِ ولذلكَ نرى المسلمينَ في مشارقِ الأرضِ ومغارِبها يهتمُّونَ بذِكرى الهجرةِ الشريفةِ، بل ويزدادونَ اهتمامًا بها على مرّ السنينِ استنهاضًا للهِمَمِ وتذكيرًا للأمةِ بواجبِهم نحوَ أنفسِهم ونحوَ أمَّتِهم لينهَضوا جميعًا لرأبِ الصدعِ وإصلاحِ ما أفسدَ الناسُ في زمنِ الغربةِ وصونِ الإسلامِ من تحريفِ الغلاةِ وانتحالِ المبطِلينَ وتأويلِ الجاهلينَ شعارُنا في ذلكَ الوسطيةُ والاعتدالُ عملًا بقولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)﴾ سورة النحل.

وفي الختامِ نسألُ اللهَ تعالى أن يجعلَ هذا العامَ عامَ خيرٍ ويُمنٍ وبركاتٍ على المؤمنين وأن يوفّقَنا جميعًا لما يحبُّه ويرضاه