العقيدة الحقة … الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين سيّدنا محمّد وعلى جميع إخوانه من النّبيّين والمرسلين وعلى آله الطيّبين الطّاهرين. اللّهمَّ علّمنا ما جهلنا وذكّرنا ما نسينا وزدنا علمًا ونعوذ بك من حال أهل النّار.
وبعد، يقول الله تعالى في مُحكم تنزيله في سورة البقرة: ﴿وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132)﴾، ويقول ربّ العزّة أيضًا في سورة آل عمران: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)﴾، لقد أنعم الله تعالى على عباده بنِعَم كثيرة لا نُحصيها، وهذه النِّعَم منها ما هو ظاهر ومنها ما هو باطن، وأكبر وأعظم نعمة يؤتاها الإنسان هي نعمة الإيمان، وقد أمرنا الله تعالى في هاتين الآيتين بالمحافظة على هذه النعمة إلى الممات، لأن الدنيا ليست هي منتهى الأمر بل الآخرة هي المآل حيث توفى النفوس ما كسبت ولا يُظلمون شيئًا، قال الله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾ سورة الزلزلة، فمن أطاع الله تعالى في الدنيا فقد فاز في الآخرة، ومن كفر وتولى فقد خسر وأهلك نفسه.
وليُعلم أن هناك اعتقادات وأفعالًا وأقوالًا تنقض الشهادتين وتوقع في الكفر والعياذ باللّه تعالى، لأن الكفر كما دلّت النصوص القرءانية وكما نصّ العلماء على ثلاثة أقسام، فالقسم الأول هو الكفر القولي لقول الله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ﴾ سورة التوبة/74، فيفهم من هذه الآية أن الكفر منه ما هو قولي يحصل باللسان، وذلك كمن يشتم الله تعالى بقوله والعياذ باللّه تعالى: أخت ربّك، أو يا ابن الله، فإنه حينئذ يكفر ولو لم يعتقد أنّ للّه أختًا أو ابنًا، وكذلك الذي يسبّ نبيًّا من الأنبياء أو مَلَكًا من الملائكة كعزرائيل، وكذا من يستهزئ بشعيرة من شعائر الإسلام كالأذان أو الصلاة أو الصيام أو الحجّ أو الزكاة ولو كان ذلك في حال المزح أو الغضب فإنه لا يعذر بذلك، أو يقول عن الجنّة إنها لعبة الصبيان ونحو ذلك من ألفاظ الكفر، فيجب على العبد أن يحفظ لسانه عن كل ما فيه شرّ، وينبغي له أن يقلّل كلامه الذي لا خير فيه، لأن كثرة الكلام تُسبّب الوقوع في ما لا يرضي الله، فإنّ هذا اللسان يهلك بسببه كثيرٌ من الناس، جِرمه صغير وجُرمه كبير، وهو كما وصفه بعض العلماء ثعبان فإنه يهلك صاحبه إن لم يحفظه كما يهلك الثعبان بسُمّه مَن لَسَعَه. وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل رضي الله عنه أنه أخذ لسانه وخاطبه فقال: يا لسان قل خيرًا تغنم، واسكت عن شرّ تسلم، من قبل أن تندم، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «أكثرُ خطايا ابنِ آدمَ من لسانِه» رواه الطبراني، وروى ابن حبان في صحيحه أن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: «يا رسول الله حدّثني بأمر أعتصم به»، قال
رسول الله ﷺ: «قُلْ ربّي الله ثم استقِمْ»، قال: قلتُ: «ما أكثرُ ما تخاف عليَّ؟»، فقال له: «هذا»، وأخذ بلسانه. فيُعلم من ذلك أن أكثر المهالك سببها اللسان، فعلى العبد أن يحفظه ويصونه عن كل ما حرّمه الله تعالى وإلا وقع في المهالك والعياذ باللّه تعالى لأنّ الكلام سهل، والنفس لها شهوة كبيرة في الكلام الذي تهواه، فيتكلم الشخص من غير تفكير في عاقبته فلا يسأل نفسه ماذا يُصيبني من هذا الكلام في الآخرة أو في الدنيا؟ نسأل الله تعالى السلامة.
والقسم الثاني من أقسام الكفر هو الكفر الاعتقادي ومكانه القلب، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ سورة الحجرات/15، فيفهم من هذه الآية أن الكفر منه ما هو اعتقادي، لأن الارتياب أي الشك إنما يكون بالقلب، وذلك كالشك في وجود الله تعالى، أو اعتقاد أن الله تعالى يُشبه خلقه كمن ينسب للّه تعالى الجهة أو المكان، أو اعتقاد أن الله نور بمعنى الضوء، أو أنه جسم جالس على العرش، أو أنه روح. قال الشيخ عبد الغني النابلسي: «من اعتقد أنّ الله ملأ السماوات والأرض أو أنّه جسم قاعد فوق العرش فهو كافر وإن زعم أنّه مسلم». وكذلك من الكفر الاعتقادي إنكار البعث والحشر والقيامة والجنّة والنار، وإنكار عذاب القبر، أو الشكّ في صحة الإسلام، وكاعتقاد أن نبيًّا من الأنبياء جاء بما يخالف الإسلام والعياذ باللّه تعالى.
والقسم الثالث من أقسام الكفر هو الكفر الفعلي، قال الله تعالى: ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾ سورة فصلت/37، يُفهم منه أنّ الكفر منه ما هو فعلي، وذلك كالسجود لصنم أو شمس أو قمر أو حجر أو السجود لإنسان على وجه العبادة له، وكإلقاء المصحف في القاذورات ولو لم يقصد الاستخفاف لأنّ فعله يدل على الاستخفاف، وككتابة آيات قرءانية بالبول، وكالدّوس على المصحف أو على أوراق شرعية مع العلم بما فيها.
وهذه الأقسام الثلاثة ذكرها العلماء في مؤلفاتهم، كالنووي الشافعي في روضة الطالبين، وابن عابدين الحنفي في حاشيته المسمّاة «ردّ المحتار على الدرّ المختار»، والشيخ محمّد علّيش المالكي الأزهري في كتاب «منح الجليل»، والشيخ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي الحنبلي في «شرح منتهى الإرادات»، وكذلك المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت الأسبق في كتابه «الكفاية لذوي العناية»، فينبغي الحذر من ذلك لأن من مات على الكفر فقد هلك هلاكًا عظيمًا ومصيره الخلود الأبدي في نار جهنم، أما من تدارك نفسه قبل موته بالدخول في الإسلام ومات على ذلك فقد نجا من الخلود الأبدي في جهنم، والدخول في الإسلام يكون بالشهادتين أو ما في معناهما، ويحصل ذلك بقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمّدًا رسول الله، وليس بقول: أستغفر الله بل لا بدّ من الشهادتين، لأن الكفر بجميع أنواعه هو الذنب الذي لا يغفره الله لمن استمر عليه إلى الموت أو إلى حالة اليأس من الحياة برؤية ملك الموت وملائكة العذاب أو إدراك الغرق بحيث أيقن الهلاك.
ثم السبيل إلى حفظ اللسان والقلب والجوارح من الكفر هو بتعلّم علم الدين، بتعلّم عقيدة أهل السنة والجماعة التي بها ينجو من الخلود الأبدي في جهنم، وبتعلّم ما يحلّ من الكلام والأعمال وما يحرم، فعلم الدين هو السبيل الذي يعرف به ما يضرّ في الآخرة وما ينفع.
ومن هنا فإننا نذكّر أنفسنا ونذكركم بالازدياد من طلب العلم، فإنه لا يشبع مؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة، كما نذكّر أنفسنا ونذكّركم بالثبات على طاعة الله واجتناب المحرمات والكفر خاصة فهو أكبر الذنوب وهو الذنب الذي لا يغفره الله لمن مات عليه كما قدّمنا وذلك لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾ سورة النساء.
فنسأل الله تعالى أن يُثبّتنا على الإسلام حتى نلقاه به، وأن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من رحمته إنه هو الرحمن الرحيم، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.