هو السلطان نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، كان جدّه «آق سنقر» قد وليَ الكثير من الولايات، ثم بعده ابنه عماد الدين زنكي ولي كثيرًا من الولايات وفتح كثيرًا من الفتوحات، ثم صار الأمر بعده لولده السلطان محمود نور الدين فكان له ولاية حلب والموصل وغيرهما من الممالك. 

وممّا ذكروه في ترجمة السلطان محمود نور الدين أنه كان عالمـًا فقيهًا على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، عابدًا ورعًا زاهدًا، فمن زهده وورعه أنه كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصّه. ولقد شكت إليه زوجته الضيق فأعطاها ثلاثة دكاكين في مدينة حمص كانت له يُحَصّلُ له منها في السنة نحو عشرين دينارًا، فاستقلّتها، فقال: ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلك، وكان يصلي كثيرًا بالليل وله فيه أوراد حسنة.

عدله ورفعه الظلم عن المسلمين

سمع الحديث وأسمعه طلبًا للأجر من الله، وأما عدله فإنه لم يترك في ممالكه على سعتها مكْسًا (أي ضرائب)، بل أبطلها جميعها في مصر والشام والجزيرة والموصل، وكان الولاة قبله قد جاروا في ذلك غاية الجور حتى وصلوا إلى أنهم يأخذون في المائة الخمسة والأربعين فأبطل ذلك كله، فبارك الله له في الغنائم وفتح له الفتوحات حتى انتزع هو والسلطان صلاح الدين رضي الله عنهما كثيرًا من الممالك الشامية.

وكان رحمه الله يعظم الشريعة ويقف عند أحكامها وله في ذلك أخبار عجيبة، فمن ذلك أن بعض رعيته ادّعى عليه بدعوى غير صحيحة ولا ثابتة وشكاه إلى القاضي الذي أقامه هو لتنفيذ الأحكام الشرعية، فاستدعاه القاضي فحضر مجلس الحكم، وقال للقاضي: إني قد جئت محاكمًا فاسلُك معي مثل ما تسلكه مع غيري، وساوى خصمه في المجلس وحاكمه فلم يثبت عليه حق، وثبت الملك لنور الدين فقال: «اشهدوا أني قد وهبتُ لخصمي هذا كل الذي حاكمني فيه، وقد كنتُ أعلم أنه لا حق له عندي وإنما حضرتُ معه لئلا يظن أني ظلمته، فحيث ظهر أن الحق لي وهبتُه له». وهذا غاية العدل والإنصاف بل غاية الإحسان.

من مناقبه

وكفى السلطان نور الدين منقبة ما ذكره العلامة السيد السمهودي في تاريخ المدينة المسمّى «خلاصة الوفا في أخبار دار المصطفى ﷺ» أن السلطان المذكور رأى النّبيّ ﷺ ثلاث مرات في ليلة واحدة، وهو يقول له في كل مرة: «يا محمود أنقذني من هذين» وهما شخصان أشقران تجاهه، فاستحضر وزيره قبل الصبح فذكر ذلك له، فقال: هذا أمر حدث بالمدينة النبويّة ليس له غيرك، فتجهزَ بمقدار ألف راحلة وما يتبعها وسار حتى دخل المدينة المنورة على حين غفلة من أهلها، ثم أمر بكتابة أسماء الناس ليتصدق عليهم وتصدق بأموال كثيرة، ولا يعطي كلَّ إنسان إلا بيده لينظر إليه رجاء أن يرى الشخصين الأشقرين اللذين أراه إياهما النّبيّ ﷺ حتى لم يبق أحد، ولم يشاهد فيمن حضر عنده الشخصين الأشقرين، فسأل هل بقي أحد؟ فقالوا: لم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الرباط الذي في قبلة حجرة النّبيّ ﷺ، فجدّوا في طلبهما حتى أحضروهما، فلما رآهما قال لوزيره: هما هذان، فسألهما عن حالهما فقالا جئنا للمجاورة، فقال لهما: اصدقاني، وخوّفهما فأقرّا أنهما وصلا لكي ينقلا مَنْ بالحجرة الشريفة باتفاق من ملوكهما، ووجدهما قد حفرا الأرض من تحت حائط المسجد القبلي لجهة الحجرة الشريفة، وكانا يجعلان التراب في بئر في الرباط، وقيل كانا يجعلان التراب في محفظتيهما ويخرجان يلقيانه في الخارج، فضرب أعناقهما عند الشباك الذي هو في شرقي الحجرة الشريفة خارج المسجد، ثم أحرقهما بالنار، وحفر خندقًا حول الحجرة الشريفة وسكب فيه الرصاص والنحاس المذاب واستحفظه غاية الاستحفاظ، ثم ركب السلطان محمود نور الدين رضي الله عنه راجعًا إلى الشام.