لما بلغ عليه الصلاة والسلام من العمر اثنتَي عشرة سنة ارتحل به أبو طالب في تجارة نحو الشام، فسار حتى وصل إلى بُصرى وكان بها راهب يسمى بَحيرا في صومعة له فلما نزلوا به، وكانوا كثيرًا ما يمرّون به لا يكلّمهم حتى إذا كان ذلك العام، ونزلوا منزلًا قريبًا من صومعته قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مرّوا، فصنع لهم طعامًا ثم دَعاهم، وإنما حَمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامةٌ تُظلّ رسول الله ﷺ من بين القومِ حتى نزلوا تحت الشجرة ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة وتهدّلت أغصان الشجرة على النّبيّ ﷺ حين استظل تحتها، فلما رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام فأُتي به. وأرسل إليهم فقال: إني قد صنعتُ لكم طعامًا يا مَعشر قريش وأنا أحبُّ أن تحضروه كلُّكم ولا تخلّفوا منكم صغيرًا ولا كبيرًا حرًّا ولا عبدًا فإن هذا شىء تكرمونني به. فقال رجل: إنّ لك لشأنًا يا بحيرا، ما كنت تصنع بنا هذا فما شأنك اليوم؟ قال: فإني أحببتُ أن أكرمكم فلكم حق، فاجتمعوا إليه وتخلّف رسولُ الله ﷺ من بين القوم في رِحالهم تحت الشجرة وذلك لحداثةِ سنّه، ليس في القومِ أصغرُ منه، فلما نظر بحيرا إلى القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجدها عنده وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم، ورآها متخلّفة على رأس رسولِ الله ﷺ.

فقال بحيرا: يا معشر قريش لا يتخلفنَّ أحد منكم عن طعامي. قالوا: ما تخلّف أحد إلا غلامٌ هو أصغر القوم سِنًّا في رحالنا، فقال بحيرا: ادعوه فليحضر طعامي فما أقبح أن يتخلّف رجلٌ واحد مع أني أراه من أنفسكم. فقال القوم: هو والله أوسطُنا نسبًا وهو ابن أخيه (يعنون أبا طالب) وهو من ولد عبد المطلب، فقال الحارثُ بنُ عبد المطلب: والله إن كان بنا للؤمٌ أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا.

ثم قام إليه فاحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام، والغمامةُ تسيرُ على رأسه، وجعلَ بحيرا يلحظ لحظًا شديدًا، وينظر إلى أشياء في جسده قد كان يجدُها عنده من صفته، فلما تفرّقوا عن طعامهم قام إليه الراهبُ فقال: باللّه إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، قال ﷺ: «سَلني عمّا بدا لك»، فجعل يسأله عن أشياء من حاله حتى نومه، فجعل رسولُ الله ﷺ يخبره فيوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بينَ عينَيه، ثم كشفَ عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفَيْه على الصفةِ التي عندَه فقبّل موضع الخاتم وقالت قريش: إنّ لِمحمّدٍ عند هذا الراهبِ لقَدْرًا، وجعل أبو طالب لِما يرى من الراهب يَخافُ على ابن أخيه، فقال الراهبُ لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال أبو طالب: ابني. قال: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًّا. قال: فابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: هلكَ (أي مات) وأمّه حبلى به، قال: فما فعلَت أمُّه؟ قال: توفيت قريبًا. قال: صدقْتَ، ارجع بابنِ أخيكَ إلى بلده واحذر عليه اليهودَ، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف لَيَبْغُنَّه بَغْيًا، فإنه كائنٌ لابن أخيك هذا شأن عظيم نجدُه في كتبِنا وما روينا عن آبائنا، واعلم أني قد أديتُ إليك النصيحة.

فلمّا فرغوا من تجارتِهم خرج به سريعًا، وكان رجالٌ من اليهود قد رأوا رسول الله ﷺ وعرفوا صفته فأرادوا أن يغتالوه، فذهبوا إلى بحيرا فذاكروه أمره فنهاهم أشدَّ النهي وقال لهم: أتجدون صفته؟ قالوا: نعم، قال: فما لكم إليه سبيل، فصدّقوه وتركوه.

ورجع به أبو طالب فما خرج به سفرًا بعد ذلك خوفًا عليه، وما زال ﷺ في صغره أفضل الخلق مروءة وأحسنهم خُلقًا وأصدقهم حديثًا وأبعدهم من الفحش والأذى حتى سمّاه قومه الأمين…