أقام عليه الصلاة والسلام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، وقد ورد أنه كان يدعو أول ما أنزلت عليه النبوة ثلاث سنين سرًّا أي يكلّم هذا ويكلّم هذا ولم يكن يذهب إلى حيث يجتمع الكثير من الناس، ثم أُمِرَ بإظهار الدين والدعاء إليه.

وقال يعقوب بن عقبة: كان أبو بكر وعثمان وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح يدعون إلى الإسلام سرًّا، وكان عمر وحمزة يدعوان علانية فغضبت قريش لذلك.

وكان عليه الصلاة والسلام يستقبل مدة إقامته بمكةَ القدسَ وهو بيت المقدس، ومع ذلك لا يستدبر الكعبة، بل يجعل البيت الحرام بين يديه تلقاء وجهه أيضًا.

وأول من أسلم أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة رضي الله عنه، ولما أسلم أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله مَن وثق به مِن قومه، وكان في إسلامه نفع عظيم للإسلام فإنه كان صدرًا رئيسًا في قريش سخيًّا ذا مال يبذله في نصرة الدين، ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام، فأسلم بعده عدّة من الأكابر الأوّلين، منهم عثمان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

ولما دعا رسول الله ﷺ إلى الإسلام ودخل في الدين جماعة قليلة، خافوا من المشركين فاتخذ النّبيّ ﷺ دار الأرقم للصحب ليتجمعوا فيها في خفية عن قومهم، واستمروا على ذلك حتى تكاملوا أربعين نفسًا آخرهم عمر رضوان الله عليه، ومضت عليهم وهم بمكة ثلاث من السنين، ثم أظهر الرحمن سبحانه الدين فصدع النّبيّ صلوات الله عليه بالدعوة أي أظهرها مُعلنًا بعدما كان مُسرًّا لما نزل ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُسورة الحجر/94، فبادر بجدّ وعزم وما ونى أي ما ضعف ولا تراخى عما أُمِر به وأَنذرَ العشائر أي القبائل حين نزل عليه ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ( 214) سورة الشعراء، فصنع طعامًا وجمع بني عبد المطلب حتى أنذرهم، ومن حينئذ اشتد الأمر بينه وبين أهله فمنهم من اتّبعه ومنهم من أعرض واستهزأ به ومنهم من آذاه فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر.

ولما صدع رسول الله ﷺ بما أُمِرَ به من التبليغ لم يبعد قومه ولم يردوا عليه ولم يتعرض له كفار قريش بالأذى حتى عاب آلهتهم وذمّها فحينئذ أجمعوا على عداوته وآذوه أذًى كثيرًا إلا من عصم الله منهم بالإسلام وقليل هم. وعطّف الله عليه عمه أبو طالب وقام دونه وحماه فمضى على أمر الله لا يرده عنه شىء.

فمشت أشراف قريش إلى أبي طالب من أجل أنهم يُساؤون من ابن أخيه فقالوا: إنه يُسفّهنا ويُسفّه ديننا ويضلّل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تُخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه، وتكرر قولهم له في ذلك في مرّة أولى ومرّة ثانية ومرّة ثالثة وهو يردّهم ردًّا جميلًا ويقول لهم قولًا رفيقًا ويذبّ عنه ويقوّي أمره ويشد أزره ويعضده ويشده، فلما كان في آخر المرات تنكروا وتذامروا ومشوا إلى أبي طالب وقالوا: إن لك سنًّا وشرفًا فينا وإنا استنهيناك من ابن أخيك فلم تَنْهَهُ وإنا لا نصبر على شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا فإما أن تكفّه أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين، فعظم على أبي طالب عداوة قومه وفراقهم ومحاربتهم ولم تطب نفسه بتسليم المصطفى ﷺ إليهم فكلّمه أبو طالب في ذلك فظن أنه بدا له وأنه خاذله فقال: «يا عم لو وُضِعتِ الشمسُ في يميني والقمرُ في يساري ما تركتُ هذا الأمر حتى يُظهِرَه اللهُ تعالى أو أهلكَ في طلبه» رواه البيهقي في الدلائل، ثم بكى وولّى فناداه عمه: «يا ابن أخي قل ما أحببتَ فلا أُسْلِمُك أبدًا»، ثم مضى رسول الله ﷺ على حاله يجهر بكلمة التوحيد ويدعو إلى الإسلام ولا يخاف سطوة العبيد، فكان يطوف على الناس في منازلهم وفي المجامع والمحافل ويقول: «يا أيها الناس إنّ اللهَ يأمرُكم أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا» ووراءه عمه أبو لهب يقول: يا أيها الناس إن هذا الرجل يأمركم أن تتركوا دين آبائكم. رواه الحاكم وغيره.

ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمعت إليه قريش وقد حضر الموسم فقال: يا معشر قريش إن وفود العرب ستقدم عليكم فأجمعوا في صاحبكم رأيًا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، قالوا: فأنت قل، قال: بل أنتم فقولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: مجنون، قال: ما هو بمجنون، رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بِخَنْقِهِ ولا تَخالُجِهِ ولا وسوسته، قالوا: شاعر، قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، قالوا: ساحر، قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بِنَفْثِهِ ولا عَقْدِهِ، قالوا: فما تقول؟ قال: والله إنَّ لقوله لَحلاوة، وإنَّ أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا أعرفُ أنه باطل، وأقرب ما يقال أن تقولوا: ساحر يفرق بين المرء وأبيه وأخيه وزوجته فاحذروا سحره وميلوا واعدلوا عنه، فتفرّقوا على ذلك، وجعلوا يقعدون بالسبل في زمن الموسم يحذرون منه ﷺ كل وافد وقادم، فكل من مرّ بهم وصفوه له وحذروه منه فافترق الناس بخبره وصدرت العرب من ذلك الموسم يتحدثون في شأنه فشاع أمره وانتشر في الآفاق ذكره ﷺ.

ولقد أوذي النّبيّ من كفار قريش أذًى شديدًا، وذلك مما يضاعف الله به الأجور ويضاعف به العذاب على أهل الفجور، ولو شاء الله لَدُمّروا تدميرًا، فقد بعث الله ملك الجبال فقال للنّبيّ: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال ﷺ: «بل أرجو أن يُخرِج اللهُ مِن أصلابهم مَن يعبدُ اللهَ وحدَه لا يُشْرِكُ به شيئًا» رواه البخاري، وقد كانوا يضمرون له الضغائن في قلوبهم لكنهم لم يتمكنوا من إيقاع ما أضمروه.