قد عرض النّبيّ ﷺ نفسه على قبائل العرب في موقف عرفة قبيلة بعد قبيلة عدة سنين ويقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربّي» رواه النسائي، لينضم إلى قبيلة تؤويه وتحميه فيُعرضون عن قوله ويُوَلّون عنه وهم يهزَؤون به ويرمون بمقالته ويترفّعون عن مجالسته، وأبو لهب وراءه يكذّبه وينهاهم عن اتّباعه. ولم يزل الشأن على ما ذكر حتى أراد الله إظهارَ دينه ونصرَ نبيّه فقيّض له الأنصار وهم الأوس والخزرج لما قدّره الله لهم من السعادة، فانتهى إلى نفر منهم وهم يحلقون، فقعد إليهم ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرءان فاستبقوا للخير واستجابوا للّه ولرسوله وآووه ونصروه فلذلك سمّوا الأنصار. وكان الواحد منهم يُسلِم ويذهب إلى قومه فيعرض عليهم الإسلام فيُسلم جميع قومه فرُحِموا بإجابتهم وإسلامهم حتى فشا الإسلام فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله ﷺ.

ثم قدم منهم مكة في العام القادم ممن أسلم أولًا ومن غيرهم لبيعة الإسلام وبايعوا ثم انصرفوا إلى المدينة، وكتبوا إلى المصطفى أن ابعث لنا من يقرئنا القرءان فبعث إليهم مصعب ابن عمير، ثم أتى من العام القابل من الأنصار سبعون رجلًا ونيّف، وهي البيعة الثانية وكانت ليلًا ونِعم البيعة، فكان جزاء من بايع فيها الجنة، لأنّ النّبيّ اشترط عليهم شروطًا وجعل لهم على الوفاء بها الجنة. فلما أصبحوا غدت جلة قريش وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار فقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا ووعدتموه أن تبايعوه على حربنا، والله ما حيٌّ من العرب أبغض إلينا من أن ينشب الحرب بيننا وبينه منكم. وطابت نفس المصطفى إذ جعل الله له منَعة وقومًا أهل حرب ونجدة…