كان المهاجرون والأنصار يغدون إلى قباء ينتظرون قدومه ﷺ في أول النهار فإذا أحرقتهم الشمس رجعوا، فلما كان يوم قدومه ﷺ غدوا كعادتهم فلما أحرقتهم الشمس رجعوا فإذا بيهودي يصيح: يا بني قيلة هذا صاحبكم، فلبسوا السلاح وتلقوه فقدم ﷺ حتى وصل إلى موضع قباء، نزلها بالسعد والهناء في يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر مولده ربيع الأول فنِعم تلك الهجرة. وجاء المسلمون يسلّمون عليه وهو ﷺ جالس في ظل نخلة حتى زال الظل عنه فقام أبو بكر يظلّه بردائه وأكثرهم لم يكن رأى المصطفى قبل ذلك. 

فلبث رسول الله ﷺ في قباء في بني عوف بضع عشرة ليلة وأسّس المسجد الذي أُسّسَ على التقوى وصلّى فيه رسول الله ﷺ ثم ركب راحلته قاصدًا المدينة فسار ﷺ يمشي معه الناس، فأخذ بعضهم خطام ناقته ﷺ وقال: أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة، فقال ﷺ: «دعوها فإنها مأمورة» رواه البيهقي، حتى بركت عند مسجد الرسول بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجالٌ من المسلمين، وكان مربدًا للتمر لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار، فقال الرسول ﷺ حين بركت الراحلة: «هذا إن شاء الله المنزل» ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد (والمربد موضع تجفيف التمر) ليتخذه مسجدًا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. فأقام بدار أبي أيوب حتى ابتنى مسجده الرحيب وكان النّبيّ ﷺ ينقل معهم الحجارة في ثيابه ويقول كما رواه البخاري: «اللّهمّ إنَّ الأجرَ أجرُ الآخرة فارحمِ الأنصارَ والمهاجرة»، ثم إنه بنى حول المسجد منازل لأهله أي نسائه ومواليه وبعث زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه وسودة زوجته وأسامة بن زيد وأمه أم أيمن وكان أصحابه عليه الصلاة والسلام يبنون مساكنهم حواليه في ظلّه حتى إن من الأنصار من ترك مسكنه البعيد وسكن بقربه.

فطابت به ﷺ طيبة منذ دخلها بعد الردى وأضاء كل ما كان منها أسود منذ دخلها.