أوحيَ إلى النّبيّ الأعظم ﷺ في حياته وهو بين أصحابه وأهله باقتراب أجله في آيات عدّة في القرءان الكريم، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)﴾ سورة الزمر، ولما نزلت سورة النصر نُعيت له بها نفسه وعرف منها ﷺ أنه الوداع، وقد قال ﷺ في حجة الوداع: «لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا» رواه النسائي، وكان نزول قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ سورة المائدة/3.
وعن عائشة زوج النّبيّ ﷺ قالت: اجتمع نساء النّبيّ فلم يغادر منهن امرأة فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله ﷺ فقال ﷺ: «مرحبًا بابنتي» ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم أسرّ إليها حديثًا فبكت، فقلتُ لها: لِمَ تبكين؟، ثم أسرّ إليها حديثًا فضحكتْ، فقلتُ: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن، فسألتُها عما قال، فقالت: ما كنتُ لأفشي سرَّ رسول الله ﷺ، حتى قُبِضَ النّبيّ ﷺ فسألتُها فقالت: أسرَّ إليّ: «إن جبريلَ كان يعارضني القرءان كلَّ سنة مرّة وإنه عارضَني العام مرّتين ولا أراه إلا حَضَرَ أجلي، وإنكِ أولُ أهلِ بيتي لحاقًا بي» فبكيتُ، فقالَ ﷺ: «أما ترضين أن تكوني سيّدةَ نساءِ أهلِ الجنةِ أو نساءِ المؤمنين» فضحكتُ لذلك، رواه البخاري.
وكان سبب مرض النّبيّ ﷺ مؤامرة المرأة اليهودية يوم خيبر حين دست له السم في طعامه، ولقد أخبرت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: «ما أزالُ أجدُ ألمَ الطعام الذي أكلتُ بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السمّ» رواه البخاري، والأبهر عرق في القلب إذا انقطع لم تبق معه حياة.
وكانت بداية مرضه ﷺ صداعًا في رأسه في بيت زوجته عائشة رضي الله عنها ولما اشتد المرض والوجع برسول الله وهو في بيت زوجته ميمونة رضي الله عنها دعا نساءه واستأذنهن أن يُمَرَّض في بيت عائشة فأذِنَّ له فخرج ﷺ بين رجُلين وهما عمّه العباس وابن عمّه عليّ ابن أبي طالب تخطُّ رِجلاه الأرض ولما دخل بيت عائشة أمرهم أن يصبّوا عليه الماء ثم خرج عليه الصلاة والسلام إلى الناس فصلى بهم وخطبهم.
وكان قد خرج إلى الصحابة عليهم السلام عاصبًا رأسه فجلس على المنبر ثم كان أول ما تكلم به أنه دعا لأصحاب غزوة أحد واستغفر لهم ثم واجه أصحابه وقال: «إن عبدًا من عبادِ الله خيّرَه اللهُ بينَ الدُّنيا وما عندَه فاختارَ ما عندَ الله» فقال أبو بكر: نحن نفديك بآبائنا وأمهاتنا فقال ﷺ: «على رسلك يا أبا بكر» رواه الطبراني، ثم قال ﷺ لمّا رأى أبا بكر يبكي حزينًا لِما علم بقرب أجل النبيّ ﷺ: «يا أبا بكر لا تبكِ إن أَمَنّ الناس عليّ في صحبتِه ومالِه أبو بكر، ولو كنتُ متخذًا خليلًا من أمّتي لاتخذتُ أبا بكرٍ ولكن أُخُوّةُ الإسلامِ ومودَّتُه» رواه مسلم.
وثقل المرض على النّبيّ ﷺ فقال: «أَصَلّى الناس»؟ قيل له: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لي ماء في المِخْضَب» فاغتسل ثم ذهب لينهض فأُغمي عليه، ثم أفاق فقال: «أَصَلّى الناس»؟ قيل له: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: «ضعوا لي ماء في المِخْضَب»، فاغتسل فأغمي عليه ثم أفاق فقال: «أَصَلّى الناس»؟ قيل له: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله ﷺ لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله إلى أبي بكر ليصلّي بالناس، فقال أبو بكر وكان رجلًا رقيقًا: يا عمر صلّ بالناس، فقال عمر: أنت أحق بذلك، فصلّى بهم أبو بكر رضي الله عنه تلك الأيام، ثم إن الرسول وجد من نفسه خفّة فخرج لصلاة الظهر بين رجلين أحدهما العباس، وكان أبو بكر يصلي بالناس فلما رأى أبو بكر النبيّ ﷺ أراد أن يتأخر فأومأ إليه النّبيّ بأن لا يتأخر وقال لهما: «أجلساني إلى جنبه»، فأجلساه إلى جنب أبي بكر فجعل أبو بكر رضي الله عنه يصلي قائمًا والرسول ﷺ يصلي قاعدًا من شدة مرضه، رواه البخاري وغيره.
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه لما كان يوم الاثنين الذي قبض الله فيه رسوله ﷺ خرج ﷺ إلى الناس وهم يصلون الصبح فرفع الستر وفتح الباب فخرج رسول الله فقام على باب عائشة فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم برسول الله حين رأوه فرَحًا به، وتفرّجوا فأشار ﷺ إليهم أن اثبتوا على صلاتكم فتبسّم رسول الله ﷺ سرورًا لما رأى من هيئتهم في صلاتهم ثم رجع، وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله قد برئ من وجعه فتوفي عليه الصلاة والسلام من يومه.
ولما مات رسول الله ﷺ وعلمت بنبأ موته ابنته الجليلة فاطمة الزهراء قالت والحزن يعتصر فؤادها: «يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه مَن جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه».
فلما دفن وقفتْ على قبره وأخذتْ قبضة من تراب القبر ووضعتْها على عينيها وبكت وأنشأت تقول:
ماذا علـى مَن شَمَّ تُرْبَةَ أحمدٍ أن لا يَشَمّ مدى الزمانِ غَوالِيا
صُبّت علـيّ مصائب لو أنها صبت علـى الأيام عُدن لياليا
فيا لها من مصيبة جلل ما أصيب المسلمون بمثلها قط، ويا لها من مصيبة كبرى أظلمت لها المدينة المنورة التي تنوّرت بأنوار النّبيّ المصطفى ﷺ ويا لها من مصيبة جلل حزنت بعدها قلوب الصحابة وتغيرت لفقدان الأمداد النّبويّة التي كان الرسول الأعظم ﷺ يمدّ بها صحابته عليهم السلام من تعليم وتأديب وحكم ومواعظ وأحكام.