الحمد للّه الذي أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرسل، والصلاة والسلام على خير الكائنات وسائر إخوانه من النبيّين المؤيّدين بالمعجزات الباهرات.
وبعد، لقد بعث اللهُ الأنبياء هُداة مهديين ورحمة للعباد، إذ ليس في العقل ما يُستغنى به عنهم، لأن العقل لا يستقل بمعرفة الأمور التي تُنجي العبد من العذاب في الآخرة، فكان في بعثة الأنبياء مصلحة ضرورية لحاجات العباد، لأن العقل وإن كان يستقل بمعرفة الواجب العقلي والمستحيل العقلي كمعرفة وجود الله تعالى وتنزيهه عن النواقص والتوصّل إلى ذلك بعد التفكر والاستدلال، إلا أنه يتوقف في الجائز العقلي كتحليل كذا أو تحريمه، فإن كلا الطرفين من الجائز العقلي، أي يتساويان في قضية العقل، إذ ليس في العقول إمكان الوقوف على ذلك، فلم يكن بُدٌّ من البيان والإيضاح على لسان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فأرسل الله تعالى رسله مبشرين ومنذرين ليُميّز العاقل بين ما حرَّم الله تعالى وما أحلَّ. وقد أيّد الله تعالى أنبياءه بالمعجزات الدالة على صدقهم، لأنها نازلة منزلة قول الله تعالى صدق عبدي هذا في كلّ ما يبلّغه عني، أي لولا أنه صادق في دعواه لما أظهرتُ له هذه المعجزة، فكأن الله تعالى قال صدق عبدي هذا الذي ادّعى النبوّة في دعواه لأني أظهرتُ له هذه المعجزة، لأن معنى المعجزةِ العلامةُ الشاهدةُ التي تشهد على صدق هذا الإنسان الذي يقول عن نفسه إنه نبيّ الله وأنه صادق في ما يبلّغه عن الله.
وقد أعطي نبيّنا محمّد ﷺ من المعجزات أكثر من غيره من الأنبياء، وأعظم المعجزات معجزة القرءان الكريم. وقد قال الشافعي رضي الله عنه: «ما أعطى الله نبيًّا معجزة إلا وأعطى محمّدًا مثلها أو أعظم منها».
والمعجزة أمر خارق للعادة، يأتي على وَفْقِ دعوى من ادعى النبوّة، سالم من المعارضة بالمثل، وليس من شرطها أن تكون مقرونة بالتحدي، وإنما من شرطها أن تكون صالحة للتحدي.
ومعنى «أمر خارق للعادة» أي أمر مناقض مخالف للعادة، مثل إخراج الناقة من الصخرة الصمّاء كما فعل سيّدنا صالح عليه السلام، ومثل انشقاق القمر لنبيّنا محمّد ﷺ، فإن هذا أمر مخالف للعادة أي عادةً لا يحصل.
ومعنى «يأتي على وفق دعوى من ادّعى النبوّة» أي تحصل على يد إنسان يقول أنا
نبيّ الله وتكون موافقة لدعواه، فإن ادّعى شخص أنه نبيّ وظهر على يده أمر خارق لكنه مناقض لدعواه بأن قال: دليل صحة نبوّتي شهادة هذا الحجر لي بذلك فأنطق الله الحجر بتكذيبه فلا يكون هذا الخارق معجزة بل يكون دليلَ كذبه في دعواه، كالذي حصل لمسيلمة الكذاب الذي ادّعى النبوّة مِن أنه جاءه رجل أعور فمسح على وجهه حتى يشفى فعميَت العين الأخرى، فإن هذا الذي حصل مناقض لدعواه وليس موافقًا. وكذلك ما يظهر من الخوارق على يد الدجال الذي يدّعي الألوهية فإن هذا لا يُسمّى معجزة بل يُسمّى استدراجًا، لأن مَنْ يدّعي الألوهية وهو موصوف بصفات البشر كَذِبُه واضح، وزيادة على ذلك أنه أعور وبشع المنظر ففيه نقص عن غيره من البشر أيضًا.
وأمّا ما يحصل من الخوارق على يد إنسان لا يدّعي الألوهية ولا النبوّة وإنما هو من أهل الصلاح والولاية فلا يسمّى معجزة بل يسمّى كرامة، وذلك مثل ما حصل مع سيّدنا عمر رضي الله عنه فقد نادى أمير الجيش الذي كان بنهاوند سارية بن زُنيم: «يا سارية الجبل الجبل» فسمع سارية ذلك وكان عمر بالمدينة يخطب كما أخرج ذلك البيهقي، وتكون هذه الكرامة معجزة للنّبيّ الذي يتبعه هذا الولي.
وقولنا: «سالم من المعارضة بالمثل» خرج به ما يُستطاع معارضته بالمثل فلا يسمّى معجزة أيضًا، فلو ادّعى شخص أنه نبيّ وأظهر أمرًا خارقًا ثم جاء إنسان آخر وقال له: أنت غير صادق وأظهر خارقًا مثله، أي أظهر نفس ما أظهره الأول فهذا يدلّ على أنه ليس بنبيّ. وذلك مثل ما يحصل من السحرة، فإن بعضهم يعارض بعضًا ويعمل مثله.
ومثال ما اجتمعت فيه الشروط التي ذكرناها ما حصل مع سيّدنا موسى عليه السلام حين ألقى عصاه فانقلبت ثعبانًا كبيرًا حقيقيًّا، فإن هذا أمر خارق للعادة، حصل من رجلٍ قال عن نفسه إنه نبيّ الله، دالّ على صدقه، موافق لدعواه، ولم يستطع أحد معارضته بالمثل، بل إن السحرة الذين جمعهم فرعون لمعارضة سيّدنا موسى عليه السلام لما رأوا هذا الشىء العجيب آمنوا باللّه وبسيّدنا موسى، لأنهم عرفوا أن هذا ليس سِحْرًا يُستطاع معارضته بالمثل.
فيُعلم مما ذُكر أن المعجزات تدلّ على صدق الأنبياء وما جاؤوا به من وجوب الإيمان باللّه تعالى وعبادته وحده من غير إشراك به، ووجوب طاعتهم في ما يأمرون الناس به، وأنّ ردّ ذلك يُعدّ إهمالًا لقيمة البرهان العقلي، فمن هداه الله إلى تصديقهم فهو الموفق إلى سبيل الرشاد، ومن لم يهده الله وعاند وآثر الكفرَ على الإيمان والتكذيبَ على التصديق والتكبرَ على الإذعان فهو المخذول المحروم والعياذ باللّه تعالى.