الحمد للّه الذي جعلنا من أمّة شُرّفت على الأمم بنبيّها، والصلاة والسلام على أشرف الأنام ومصباح الظلام وشمس دين الإسلام محمّد وعلى آل بيته الطاهرين وصحابته المنتجبين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد فإن الله سبحانه وتعالى بعث إلى هذه الأمّة نبيّها محمّدًا ﷺ ليكون بشيرًا ونذيرًا فجاء خير معلم، ونشر دين الله الذي يعلو ولا يُعلى عليه، فانتقل الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، وكان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خُلُقًا وسَمْتًا وخير الناس لأهله وأنفعهم للناس، وقد زكى الله تعالى خُلُقه في القرءان الكريم فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾ سورة القلم، فحريّ بنا أن نقتدي بآثاره ونتّبع سنّته ونقتدي بشمائله ﷺ كيف لا وقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾ سورة الأحزاب.
ثم إن السلف الصالح كانوا يدركون ما لسِيرة خاتم الأنبياء ﷺ من آثار حسنة في تربية النشء الذي سيحمل رسالة الإسلام، فكانوا يتدارسونها ويلقنونها أبناءهم ويعتنون بالاقتداء به ﷺ في كل أحوالهم حتى في طعامهم، فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله قال: إن خياطًا دعا النّبيّ ﷺ لطعام صنعه فذهبت مع رسول الله إلى ذلك الطعام، قال أنس: فرأيت النّبيّ ﷺ يتتبّع الدُّباء من حوالي الصفحة فلم أزل أحبّ الدُّباء من يومئذ، رواه البخاري ومسلم.
فأيّ خُلُق أحسن من خُلُق رسول الله ﷺ وهو الذي قالت السيّدة عائشة فيه حين سُئلت عن خُلُقه: «كان خُلُقه القرءان»، فما أحسن أن نقتدي به ﷺ وننشّئ أولادنا على آدابه ونزرع في قلوبهم التمسّك بسنّة أفضل خلق الله وأشجعهم وأجودهم وأكرمهم فإن ذلك دليل الفلاح في الدنيا والآخرة فإنا لن نصلح إلا بما صلح به الأولون، لا بالاقتداء بغير المسلمين ولا بالحرص على تقليدهم في اللباس والطعام والشراب والأخلاق والأثاث والكلام، حتى في تسريحات الشعر كما يحصل الآن من كثير من شباب وشابات المسلمين، فتراهم حريصين أشد الحرص على تقليد الممثلة الفلانية أو لاعب الكرة الفلاني بدل أن يتخذوا النّبيّ عليه الصلاة والسلام قدوة، فتنشأ الأجيال لا تعرف شمائل وخصال النّبيّ ﷺ فواأسفاه…
فلأجل ذلك أحببنا أن نضع بين أيديكم عددًا ضمّنّاه شيئًا من الخصال المحمّدية والأخلاق الإسلاميّة سائلين الله تعالى أن نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه فإن التأسي بالأخلاق والآداب التي حثّ عليها الشرع الكريم سبب في بناء مجتمعات أشد تماسكًا وأقل تفرقة وفي نشأة أجيال تحمل راية الإسلام بإذن الله تعالى.
حُسن الخُلُق
قال رسول الله ﷺ: «أكملُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهُم خُلُقًا» رواه الترمذي. تجمّل الإنسان بحُسن الخُلُق فيه خير كثير وراحة للبال وهو سبب في نشر الألفة بين الناس وتقليل الشحناء والبغضاء بينهم، كيف لا وقد حثّنا عليه النّبيّ ﷺ فقال: «ما من شىء أثقلُ في الميزانِ من حُسن الخُلُق» رواه أبو داود.
وحُسن الخُلُق هو تحمّل أذى الغير وكفّ الأذى عن المسلمين وبذل المعروف، أي أن يُحسن المؤمن إلى الذي أحسن إليه، وإلى الذي لم يُحسن إليه، فينبغي للإنسان أن يكون في المعاملات بين الناس سمحًا لحقوقه لا يطالب غيره بها بإلحاحٍ ويوفي ما يجب لغيره عليه منها، فإن مرض فلم يُعد أو قدم من سفر فلم يُزر أو سلّم فلم يُردّ عليه أو ضاف فلم يُكرم أو أحسن فلم يُشكر أو تكلّم فلم يُنصت إليه أو خطب فلم يُزوّج أو استمهل الدَّيْن فلم يُمهل وما أشبه ذلك، فلا يستشعر في نفسه أنه قد جُفي وأوحش ولا يُقابل كل ذلك إذا وجد السبيل إليه بمثله بل ليضمر أنه لا يعتد بشىء من ذلك، وليقابل كُلًّا منها بما هو أحسن وأفضل وأقرب إلى البرّ والتقوى وأشبه بما يحمد ويُرضى، ثم يكون في إيفاء ما عليه كحاله في حفظ ما يكون له، فإذا مرض أخوه المسلم عاده، وإن استمهله في قضاء دَيْن أمهله، وإن احتاج منه إلى معونته أعانه، وإن استسمحه في بيع سمح له، ولا ينظر إلى الذي يعامله كيف كانت معاملته إياه في ما خلا.
ثم إن الخُلُق الحسن قد يكون طبيعةً في الشخص وقد يكون مكتسبًا، ويمكن الشخص أن يزداد في حُسن الخُلُق سواء كانت هذه الصفة جِبِلَّة أم مكتسبة، فهو يضم إليه ما يتمّمه فترى ذا الرأي يزداد بمجالسة أولي الأحلام والنُّهى رأيًا، والعالم يزداد بمخالطة العلماء علمًا، وكذلك الصالح والعاقل بمجالسة الصلحاء والعقلاء، فلا ينكر أن يكون ذو الخُلُق الحسن الجميل يزداد حُسنَ خُلُقٍ بمجالسة أولي الأخلاق الحسنة.
والإحسان إلى من أحسن إليك ليس بالأمر الصعب ولا حاجة عادة إلى مجاهدة النفس لأجله، لكن الإحسان إلى من أساء إليك فيه من قهر النفس وكفّها عن هواها ما فيه إلا أن أجره عظيم وعاقبته حميدة، فقد روى أبو داود وغيره بالإسناد الصحيح عن النّبيّ ﷺ أنه قال: «مَنْ كظمَ غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنْفِذَه، دعاه اللهُ عزّ وجلّ على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يُخيّرَه اللهُ من الحور العِين ما شاء». فكم من أناس ليس لهم كثير صلاة من النفل ولا كثير صيام من النفل تعادل درجاتهم في الآخرة درجات الصوّامين القوّامين الذين لا يتحلّون بحُسن الخُلُق.
وإذا نظرت إلى سِيَر الأنبياء عليهم السلام وجدتهم أحسن الناس أخلاقًا، وكان دأبهم العفو والصفح والمسامحة، فهذا يوسف عليه السلام بعد أن وصل إلى المنصب الذي وصل إليه في مصر ولقي إخوته الذين رموه في البئر وأحرقوا قلب أبيهم يعقوب على ولده، ماذا فعل بهم يوسف؟ ما أساء إليهم ولا قابل أفعالهم بالمثل إنما قال لهم: لا تثريب عليكم اليوم أي لا تخافوا.
وهذا نبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام بعد أن أخرجه كفار قريش من مكة يقول: «واللهِ إنكِ لخيرُ أرضِ اللهِ وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى الله، ولولا أنــي أُخرِجْتُ منكِ ما خرجتُ» رواه ابن حبان، وفي رواية له أيضًا: «ولولا أن قومي أخرجوني منكِ، ما سكنتُ غيرَك» ثم لما عاد عليه الصلاة والسلام فاتحًا لمكّة بعشرة آلاف مقاتل وحاصر مكة من كل الجهات وكانت رقاب الكفار تحت سيوف المسلمين مع ذلك النّبيّ ﷺ قال لهم: «ما ترون أني صانع بكم؟»، قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» رواه البيهقي.
وقال رسول الله ﷺ: «ألا أدلُّكم على أكرمِ أخلاق الدنيا والآخرة؟ أن تعفوَ عمّن ظلمك، وتصلَ مَنْ قطعك، وتُعطيَ مَنْ حَرَمَك» رواه البيهقي. فكن أخي القارئ على ذكر لهذه الكلمات القلائل، وتخلّق بأخلاق الأنبياء والصالحين فإن في ذلك صلاح دينك ودنياك.
التواضع
قال رسول الله ﷺ: «من تواضع للّه رفعه الله» رواه البيهقي. ولقد حثّنا النّبيّ ﷺ على التواضع وترك التكبّر والترفّع على الناس، وإذا تتبعنا سِيَر الأنبياء عليهم السلام وجدناهم أكثر الناس تواضعًا، مع أن الله تعالى فضّلهم على العالمين، فهذا نبيّنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه كان يحلب شاته بيده ويخصف نعله بيده ويرقع ثوبه وهذا من كمال تواضعه عليه الصلاة والسلام، وقد سُئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النّبيّ يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله (أي خدمة أهله) فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
وقد أحبّ رسول الله ﷺ أن يكون في الدنيا من المتواضعين وأن يُحشر يوم القيامة مع المتواضعين فقال عليه الصلاة والسلام في ما رواه الترمذي: «اللّهمّ أحيِني مسكينًا وأَمِتْني مسكينًا واحشرني في زُمرة المساكين» أي المتواضعين.
وكان عليه الصلاة والسلام يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة ويعود المريض ويجيب من دعاه من غني وفقير وشريف وغير ذلك، ولا يحقر مؤمنًا ولا يدع أحدًا يمشي خلفه، فإن كان أفضل خلق الله على هذا النحو من التواضع والانكسار فلِمَ يتكبّر أحدنا على أخيه؟
ثم إن نظرنا في أخلاق كبار العلماء والصالحين وجدنا أنهم أحرص الناس على الاقتداء بالنّبيّ عليه الصلاة والسلام فقد حصل لسيّدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه أن كان ذات يوم يمشي مع جمع من مريديه فعلم بذلك يهودي كان يسمع أن السيّد أحمد الرفاعي حليم متواضع فأراد أن يمتحنه هل هو كما يصفه الناس أم لا فأتى إليه وقال له: يا سيّد أنت أفضل أم الكلب أفضل؟ فقال رضي الله عنه: إن نجوتُ على الصراط فأنا أفضل، فأسلم اليهودي وأسلم كثير من معارفه، فلولا أن تواضع معه لم يُسلم لكن أعجبه شدة حلمه وتواضعه فاعترف في نفسه بأن دين هذا السيّد صحيح، وكان رضي الله عنه قد بلغ غاية عظيمة في التواضع حتى إنه كان يكنس الرواق بنفسه وكان يخرج ليمسك أيدي العميان ليوصلهم إلى حيث يريدون.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «ألا أخبركم بأهل الجنة؟ أهلُ الجنة كلُّ هَيّنٍ لَيّنٍ سَهلٍ قريب» رواه الطبراني، ومعنى «هَيّن» متواضع سهل في التعامل، وقال أيضًا: «إنكم لتغفُلُون عن أفضلِ العبادةِ التواضع» رواه ابن حجر في الأمالي، أي من أفضل العبادة وليس أفضلها على الإطلاق، فليُلزم أحدنا نفسه أن يتواضع لأخيه لا أن يكون مترفّعًا عليه، فعلينا بمخالفة النفس فإن النفس تحبّ الترفع والتعالي. ثم إن التواضع يدعو إلى التطاوع، والتطاوع هو أن يوافق كل واحد أخاه ولا يترفع عليه ولا يسيء الظن به، وإذا خالف رأيه رأي أخيه يتهم رأي نفسه ويقول: لعل رأي أخي هذا أحسن، فينظر فيه فإن تيقن خطأه ينبّهه، وليكن أحدنا كما فعل سيّدنا علي رضي الله عنه، كان في جيش خالد بن الوليد، وكان سيّدنا خالد هو قائدهم مع ما بين خالد وسيّدنا علي من رفعة القدر.
فلا ينبغي أن يغفل أحدنا عن التواضع، وليسأل كل منا نفسه أين أنا من الاقتداء بأفضل خلق الله عليه الصلاة والسلام، وليروّض نفسه على عدم الترفع والتعالي على الناس فترتفع درجته عند الله تعالى.