كان نهر «دجلة» يجري قديمًا في أرض في قنوات محفوظة إلى أن يصب في بحر فارس، ثم غُوّرت (أي غابت في الأرض) وجرَتْ ناحية «واسط»، فأنفق الأكاسرة على إعادتها إلى مجراها القديم أموالًا كثيرة فبنوا سدًّا ولكن لم يثبت السدّ، فلمّا وَلِيَ «قباذ بن فيروز» انبثق السيل (أي خرق وشق الموضع) في أسافل «كسكر» (وهي محلة بين واسط والبصرة) بشقّ عظيم، وغلب الماء فأغرق عمارات كثيرة، فلما وَلِيَ «كسرى أنو شروان» سوّيت الأرض فعاد بعض تلك العمارة وبقيت على ذلك إلى أن ملك «أبرويز بن هرمز بن أنو شروان» وكان من أشد قادة الفرس بطشًا.
قال وهب بن منبّه: وكان عنده ثلاثمائة وستون رجلًا من الحزاة، والحزاة: العلماء من بين كاهن، وساحر، ومنجّم، وكان فيهم رجل من العرب يقال له «السائب» قلَّما يُخطئ، بعث به إليه «باذان» من اليمن. و«باذان» معيّن من قِبل كسرى على اليمن.
فكان كسرى إذا أخافه أمر جمع كهّانه وسحرته ومُنَجّميه فقال: انظروا في هذا الأمر ما هو.
فلما وُلد محمدٌ ﷺ أصبح كسرى في أحد الأيام وقد انفلقت قُبّة قصره من وسطها وتهدّم من إيوان كسرى أربعَ عشرة شرفة، فلما رأى ذلك أحزنه ودعا كهّانه وسحرته ومنجّميه ودعا السائب معهم، فأخبرهم بذلك وقال: انظروا في ذلك الأمر.
فنظروا فأظلمت عليهم الأرض وانسدت الآفاق أمامهم، ولم ينفع لساحر سحره ولا لكاهن كهانته، ولا لمنجّم علم نجومه.
وبات «السائب» في ليلة ظلماء على ربوة من الأرض يرمق برقًا خرج من أرض الحجاز ثم استطار حتى بلغ المشرق. فلما أصبح ذهب ينظر إلى ما تحت قدميه فإذا روضة خضراء. فقال فيما يتكهن: لئن صدق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ الشرق والغرب.
وبعد مبعث النّبيّ الأعظم ﷺ أرسل رسول الله محمّد ﷺ رسائل عديدة إلى رؤساء الطوائف وملوك الأرض. ومنها رسالة إلى «كسرى» عظيم الفرس.
فجاءه كتاب رسول الله ﷺ مع عبد الله بن حذافة فمزّق الكتاب، فقال رسول الله ﷺ: «مزّق الله ملكه» رواه البيهقي. وكان كتابه ﷺ: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على مَن اتّبع الهدى وآمن باللّه ورسوله وشهد أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا عبدُه ورسولُه، وأدعوك بدعاء الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأُنذر مَن كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، فأسلمْ تسلَمْ وإن أبيتَ فإن إثم المجوس عليك» ذكره الطبري في تاريخه، فلما قرأه شَقَّه قال: يكتب إليّ بهذا وهو عندي!
ثم كتب كسرى إلى «باذان» (حاكم اليمن من قبل كسرى) أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به! فبعث «باذان» «بابويه» (وكان كاتبًا حاسبًا) ورجلًا آخر من الفرس يقال له: «خرخسره» وكتب معهما يأمرهما بالمسير إلى رسول الله ﷺ. وسمعتْ قريش بذلك ففرحوا، وقالوا: أبشروا فقد نصب له «كسرى» ملك الملوك، كُفيتم الرجل (بزعمهم محمّدًا)، فخرجا حتى قَدِمَا على رسول الله ﷺ فأعْلَمَاه بما قدما له، وقالا: إنْ فعلتَ كَتَبَ «باذان» فيك إلى «كسرى» وإنْ أبيتَ فهو يهلكك ويهلك قومك. فقال لهما
رسول الله ﷺ: «ارجعا حتى تأتياني غدًا». وأتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء إنّ الله قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا وليلة كذا فدعاهما رسول الله ﷺ وأخبرهما بقتل كسرى. وقال لهما: «قولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى وينتهي إلى منتهى الخف والحافر وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك» رواه أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة.
وخرجا فقدما على باذان وأخبراه الخبر فقال باذان: والله ما هذا كلام ملك وإني لأراه نبيًّا ولننظرن فإنْ كان ما قال حقًّا فإنه لنبيّ مرسل، وإنْ لم يكن فنرى فيه رأينا. فلم يلبث باذان أنْ قدم عليه كتاب شيرويه يخبره بقتل كسرى وأنّه قتله غضبًا للفرس لأنه قتل من أشرافهم وتأمّره بأخذ الطاعة له. فلما أتاه كتاب شيرويه (كما أخبر النّبيّ محمّد ﷺ) أسلم باذان وأسلم معه أبناء من فارس.
والحمد للّه ربّ العالمين.